دخلت تركيا «حفلة مزايدات» مكشوفة، في وقت كان يُنتظر فيه منها أن تبادر إلى خطوات ملموسة لوقف الوحشية الإسرائيلية في غزة. ولعلّ المفارقة هنا، هي أن مَن بدأ هذه المزايدات ليس سوى شريك «حزب العدالة والتنمية» في الحُكم، زعيم حزب «الحركة القومية» دولت باهتشلي، الذي ذهب إلى أبعد ممّا تبنّاه الرئيس رجب طيب إردوغان، بقوله إن غزة تتعرّض، منذ ما يزيد على أسبوعين، لهجمات ترتقي إلى مستوى «الإبادة»، و«تجاوزت حدود التحمّل والصبر كلّها»، منتقداً كلّاً من الأمم المتحدة والولايات المتحدة و«منظّمة التعاون الإسلامي» لعجزها وتواطئها. وعليه، دعا باهتشلي، تركيا إلى «ألّا تكتفي بالتفرّج»، قائلاً: «نداء حزب الحركة القومية هو: إذا لم يتمّ وقف النار خلال 24 ساعة من الآن (السبت)، وإذا استمرّ قصف المظلومين، فإن على تركيا التدخّل بسرعة، وعليها أن تضطلع بمسؤولياتها التاريخية والإنسانية والإيمانية. إن الاضطلاع بمهمّتنا لحماية غزة، هو إرث أجدادنا لنا». أمّا الحلّ الوحيد الذي يراه زعيم «الحركة القومية» مناسباً وممكناً، فهو «إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية»، معتبراً أن «تأدية تركيا دور الضامن للحلّ، هو اقتراح عقلاني وإستراتيجي». ورأى أيضاً أنه لا يمكن استمرار التصعيد في غزة على هذا النحو، وأنه «لا يمكن للأمّة التركية أن تبقى متفرّجة، ولن تبقى».من جهتهما، تلقّف حزبا «السعادة» بزعامة تيميل قره مللا أوغلو، و«المستقبل» بزعامة أحمد داود أوغلو، الدعوة إلى التدخّل في غزة، بالترحيب والدعم، فقال الأول إنه «يُقدّر عالياً حساسيّة باهتشلي تجاه فلسطين، وندعم النداء الذي يفرضه تاريخنا وإنسانيتنا»، فيما رأى الثاني أنه «رغم محاولة حجب الحقيقة عمّا يجري في غزة، فإنّنا ندعم كلّ خطوة يمكن أن توقف هذه المجزرة الإنسانية». على أنه لم يُفهَم بالضبط ما المقصود بالدعوة إلى تدخُّل تركي (لا يمكن إلّا أن يكون عسكرياً)، فإذا كان المقصود الجانب الديبلوماسي، فهو قائم فعلاً، وآخر فصوله إجراء إردوغان اتّصالات بكلّ من رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، وأمين عام «حلف شمال الأطلسي» ينس ستولتنبرغ، ورئيسَي أوغندا وجزر المالديف، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي «بحث معه الأوضاع في غزة». وبالتالي، فإن دعوة باهتشلي تأتي لاسترضاء الرأي العام الداخلي، فضلاً عن أنها ليست سوى جزء من حفلة مزايدات شارك فيها الجميع، من دون أيّ خطوات عمليّة كان يمكن لتركيا وغيرها اتّخاذها، ومنها، على سبيل المثال، سحب سفراء، أو وقف تصدير بعض المنتجات من خضار وفاكهة في هذه المرحلة.
على المستوى الإعلامي، كتب سرهاد أركمان، المعروف بأبحاثه الأكاديمية، في موقع «جولة فكر»، أن «قدرة إسرائيل على ردع حماس بعد أسبوعين على بدء عمليّة طوفان الأقصى، تضاءلت على نحو ملحوظ، فيما نوايا إسرائيل غير واضحة إلى الآن. كذلك، فإن الهدف السياسي النهائي ليس واضحاً بعد، وهو ما يؤخّر القيام بعملية عسكرية برّية، لأن الحرب وسيلة للأهداف السياسية، ولا تسير كلّ حرب كما هو مخطّط لها على الورق، ومثال أوكرانيا واضح». ويضيف أركمان أن «إسرائيل تريد عمليات عسكرية طويلة المدى، فيما الغرب والخليج ومصر خائفون من التأثير غير المباشر لذلك، ويريدون إنهاء العمليات في أسرع وقت»، معتبراً أن «إيران وحزب الله لا يرغبان في توسيع دائرة الحرب لأسباب مختلفة، وما لم تكن طهران في وضع صعب جدّاً، فليس لها مكاسب مهمّة من حرب إقليمية، خصوصاً أن إسرائيل بدأت تخسر في ميزان الرأي العام العالمي، مع مواصلتها مجازرها في غزة، وهذا يصبّ في مصلحة إيران. كما أن الصين هي آخر مَن يريد حروباً أوسع في المنطقة. أيضاً، إن روسيا ترى اليوم في وحشية إسرائيل في غزة، فرصة لاتّهامها هي والغرب الذي يساندها، بارتكاب الجُرم نفسه في غزة الذي كانت إسرائيل والغرب يتّهمان به روسيا وبوتين في أوكرانيا».
رأى باهتشلي أنه «لا يمكن للأمّة التركية أن تبقى متفرّجة، ولن تبقى»


وفي صحيفة «قرار»، يقول منصور آق كون إنه «من الضروري وضع حدّ لهذا الجنون والوهم الجماعي. وهذا لا يمكن تحقيقه إلّا عبر النظر إلى الأحداث من أعلى، والرجوع خطوة إلى الوراء، والبحث في الحلّ الذي يمكن إيجاده، وكيف يمكن إدارة المشكلة الفلسطينية بصورة أفضل. وإلّا، فإن هذه الدوامة ستستمرّ، ولن تنتهي الرغبة في الانتقام أبداً. سوف يموت الناس، وسوف تتصاعد الحروب، وسوف تصبح البلدان والمناطق غير مستقرّة. وسوف نتأثّر جميعاً، بما في ذلك نحن، والعالم كلّه بطريقة أو بأخرى». ويضيف: «لا ننسى أن الفوضى اندلعت في الدول العربية التي وافقت على الانسجام مع إسرائيل من أجل أميركا. إن القضيّة الفلسطينية، التي يُعتقد أنها خرجت من الذاكرة الجماعية للعالم العربي والإسلامي، عادت إلى الواجهة مرّة أخرى مع ردّ الفعل الإسرائيلي غير المتناسب، الذي يرقى إلى جريمة حرب، ومع زيارة بايدن المؤسفة». ويتابع: «أعتقد أن التقارب السعودي - الإسرائيلي لن يكون سهلاً من الآن فصاعداً، وحتى محمد بن سلمان سيتعيّن عليه أن يأخذ في الحسبان توقّعات شعبه».