رام الله | قبيل معركة «طوفان الأقصى» (7 تشرين الأول)، عاد ثمانية آلاف عامل من الأراضي المحتلّة إلى قطاع غزة، بسبب عطلة الأعياد اليهودية، فيما قرّر نحو 10 آلاف منهم البقاء في أماكن عملهم، ليتحوّلوا إلى مطارَدين وملاحَقين من قِبَل قوات الاحتلال. ولكن فور وقوع عملية المقاومة في «غلاف غزة»، قرّر مئات العمّال الغزيّين، بشكل فردي، الانتقال إلى الضفة الغربية، بينما ارتأت البقيّة الاستمرار في العمل، وتنحية نفسها عمّا هو جارٍ. غير أن ذلك لن يستمرّ طويلاً، مع قرار سلطات العدو شنّ حملة اعتقالات واسعة طالت العمّال، الذين تعرّضوا للتنكيل والاعتداء على أيدي القوات الإسرائيلية، والطرد من أشغالهم، من دون تحصيل مستحَقّاتهم المالية.وتُفيد المعلومات المتوفّرة في هذا الإطار، بأن إسرائيل اعتقلت بالفعل قرابة أربعة آلاف عامل، وطَردت آلافاً آخرين إلى الضفة، قبل أن تعود إلى ملاحقتهم، بهدف اعتقالهم وإخضاعهم لتحقيقات حول علاقة محتملة لهم بالمقاومة، وما إذا كان في إمكانهم تزويد العدو بمعلومات سابقة على «طوفان الأقصى» ومتّصلة بها. ولهذه الغاية، شنّت القوات الإسرائيلية هجمات متتالية على أماكن سكن العمّال الغزيّين، وسمحت لمستوطنيها بمهاجمتهم أينما وُجدوا، بذريعة أنهم مقاومون دخلوا من قطاع غزة. وفي أحد تلك الهجمات، أغارت مجموعة من المستوطنين المسلّحين، وبحماية رجال الشرطة، على عدد من العمّال، وطرحتهم أرضاً وكبّلتهم ورفعت السلاح عليهم، كنوع من العقاب على ما فعلته كتائب «القسام». كما أَعدمت قوات الاحتلال أربعة عمّال كانوا في طريقهم إلى القطاع، بذريعة أنهم مقاومون. وعلى هذه الخلفية، وجّهت الدائرة القانونية في «نقابة العمال العرب» في مدينة الناصرة، رسائل عاجلة إلى إدارة سلطة سجون الاحتلال والإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة، تطالب فيها بـ«الكشف عن مصير آلاف العمّال الغزيّين الذين عملوا في إسرائيل، واختفت آثارهم يوم 7 تشرين الأول». ولفتت الدائرة، في بيانها، إلى أنه «في حديث للنقابة مع عدد من العمّال الغزيّين في مدينة حيفا، قال هؤلاء إن هناك عدداً كبيراً منهم هربوا إلى الضفة الغربية، وقسماً منهم وصل إلى مدينة رام الله، ولكن كثيرين أوقفوا على الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وتعرّضوا للتنكيل والضرب المبرح وسرقت الأموال التي كانت بحوزتهم. وأكد العمال أن هناك المئات ممّن يتمّ احتجازهم في معسكرات للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية». وبحسب النقابة، فإنه «في تواصل آخر مع عدد من العمّال الذين لجأوا إلى مدينة جنين، أكدوا لنا أن المئات من زملائهم اختفت آثارهم، وأنهم تعرّضوا لتحقيق وضرب مبرح على الحواجز العسكرية الإسرائيلية».
وتشهد الضفة الغربية، كلّ ليلة تقريباً، اقتحامات متكرّرة لقاعات وفنادق ونوادٍ يتواجد فيها العمّال، تتخلّلها اعتقالات لكلّ من تصل إليه يد الاحتلال من هؤلاء. وقبل أيام، اعتُقل نحو 50 عاملاً في حلحول والظاهرية في مدينة الخليل، كما اعتُقل عدد آخر من أحد مساجد مدينة رام الله. كذلك، حاصر العدو مقرّاً يتجمّع فيه العمّال في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم، واقتحم «مجمع رام الله الترويحي» الذي يحتضن هؤلاء عادة، من دون العثور على أحد. وكان هذا المجمع الواقع وسط رام الله، استقبل مئات العمّال الذين ألقت بهم قوات الاحتلال على الحواجز العسكرية، قبل أن تعود وتلاحقهم. وقد تحوّل، مع تتابع قدوم العمّال إليه، إلى محطّة انتقال لهم، قبل نقلهم إلى مراكز في محافظات أخرى، أو إلى فنادق. ونظراً إلى عدم توافر مراكز إيواء جاهزة ومخصّصة لذلك، ورفْض الاحتلال الإسرائيلي التنسيق لنقلهم بين المدن، تركّزت عملية نقلهم في مدينة أريحا، حيث بدأت السلطة، منتصف الشهر الجاري، بإجلائهم إلى مسكن جامعة «الاستقلال العسكرية»، ومقرّات للأجهزة الأمنية في المدينة.
شكّلت السلطة الفلسطينية خليّة أزمة لمتابعة أمور العمّال الغزيّين


ويقول محمد عواد، الذي كان يعمل في تل أبيب، لـ«الأخبار»: «نحن عمّال حصلنا على تصريح للعمل بعدما أجروا علينا فحصاً أمنياً دقيقاً على مدى أشهر، والشرطة تعلم أنّنا جئنا لكي نعمل فقط. وعلى رغم ذلك، وعقب ما جرى في 7 تشرين الأول، تعرّضنا لانتهاكات واعتداءات على يد الشرطة، وتحقيق قاس لساعات، كما أن أصحاب العمل لم يدفعوا لنا مستحقّاتنا المالية، وفي النهاية ألقوا بنا على الحواجز العسكرية». ويضيف: «كان عناصر شرطة الاحتلال ينتقمون، أو يثأرون منّا، وفي أحيان كثيرة عبّروا عن رغبتهم في قتلنا وسط صراخ وسباب وشتائم»، لافتاً إلى أن قوات الاحتلال «تعمّدت إذلالنا خلال فترة الاحتجاز والتحقيق، وبعض العمّال الذين قابلناهم لاحقاً أفادوا بتعرّضهم للتعذيب والضرب الشديد». ومن جهتها، تُفيد مصادر معنيّة بالحركة الأسيرة، «الأخبار»، بأن «قوات الاحتلال تحتجز عمّال غزة في منشآت عسكرية، بغرض الاستجواب والضغط عليهم»، مشيرة إلى أن «مصلحة سجون الاحتلال لم تكشف، إلى الآن، عن عدد المحتجزين وأماكنهم، وهي أعادت تفعيل العديد من المعسكرات القديمة لاحتجاز العمّال». ووفق المصادر، فإن «المقلق هو تعتيم إسرائيل على مكان احتجاز العمّال وآلية اعتقالهم، ومنْع نشر أيّ معلومات عنهم، أو اعترافها بعددهم وهوياتهم، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنهم يتعرّضون لتعذيب ومعاملة قاسية تُحرّكها الرغبة في الانتقام، في معسكر «حقل اليمن» الواقع قرب غزة».
في هذا الوقت، شكّلت السلطة الفلسطينية خليّة أزمة لمتابعة أمور العمّال، بمشاركة أطراف من وزارات الحكومة، والغرف التجارية، و«الاتحاد العام لعمّال فلسطين»، بهدف بحث أوضاع العمّال وتوفير ظروف موائمة لإيوائهم، حيث جرى نقل قرابة 1700 إلى المقرّات الأمنية في محافظة أريحا بإشراف اللجنة. وحتى قبل تدخُّل السلطة في تشكيل الخلية، هبّ المجتمع المحلّي لاحتضان العمّال واستقبالهم وتوفير مستلزماتهم، لكن ملاحقتهم بغية اعتقالهم في الضفة، تخلق واقعاً مريراً. ودشّنت وزارة العمل منصّة هاتفية، تتيح عبرها الاستفسار عن عمّال غزة في الداخل من قِبَل ذويهم، وذلك بالتنسيق والتعاون مع «الصليب الأحمر» الذي جرى تزويده بما يتوافر من معلومات عنهم، إضافة إلى التنسيق مع «الأونروا»، و«منظمة العمل الدولية»، و«وكالة الأمم المتحدة للتنمية العالمية»، لتوفير احتياجاتهم.