يحاول الرئيس الأميركي، ومعه بقيّة وكلائه من المسؤولين الأوروبيين، والذين يحار المرء في إيجاد التوصيف الملائم لهم: معسكر أو قبيلة أو قطيع، إيهام الرأي العام في بلادنا وبلادهم وبقية العالم، بأن لديهم مشروعاً أو مخطّطاً أو في الحدّ الأدنى تصوّراً، لليوم التالي لمعركة غزة. هرع هؤلاء خلف «راعيهم»، بايدن، إلى الكيان، ليؤكّدوا، وفقاً لتعبير آخر القادمين إليه، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقوفهم «مع إسرائيل كتفاً بكتف»، وعدم ترك الإسرائيليين وحدهم في «هذه الحرب على الإرهاب، فمن واجبنا أن نحارب الإرهاب بلا أيّ لبس، ومن دون توسيع نطاق هذا الصراع»، مع الحضّ على تشكيل ائتلاف دولي ضدّ «حماس» كذلك الذي تَشكّل ضدّ «داعش»! بكلام آخر، هم أتوا لدعم عمليات القتل الجماعي للفلسطينيين، والتي يحكمها في الواقع منطق الإبادة الجماعية، ولردع أيّ مسعى لوقفها من قِبل أطراف محور المقاومة، والذين حذّروا من أن استمرارها سيفضي بالضرورة إلى توسيع نطاق النزاع. الحجيج الجماعي إلى الكيان، وحشد حاملات الطائرات والسفن الحربية والتلويح بإمكانية المشاركة في الحرب في حال رفع أطراف «المحور» مستوى مشاركتهم فيها، كلّ ذلك يندرج بمجمله في إطار مساعي «الردع». غير أن الأنكى من كلّ ذلك هو إعلان بعض قادة القطيع المذكور، امتلاكهم «رؤية» لمرحلة ما بعد الحرب، ليست إلّا اجتراراً لشعارات تافهة سبق أن طرحوها عندما شرعوا في شنّ حروبهم المدمّرة على دول هذه المنطقة وشعوبها.لم ينسَ أحد في هذا الإقليم حديث وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، خلال العدوان الصهيوني على لبنان في تموز - آب 2006، عن «آلام مخاض الشرق الأوسط الجديد»، لتبرير المذابح التي ارتُكبت في سياقه، ولا حديث جورج بوش الأب وأقطاب إدارته عن «قيامة نظام عالمي جديد»، عندما باشروا في تدمير العراق بذريعة تحرير الكويت في عام 1991. يمكن الاكتفاء بهذين المثلَين لأن كلّ الحروب الاستعمارية الغربية على شعوب الجنوب منذ قرون، استلهمت شعارات ومقولات تبرّرها أيديولوجياً، مستلهَمة أساساً من أطروحة «المهمّة الحضارية» للرجل الأبيض. لا طائل للاسترسال في تحليل مدى الاستخفاف بعقول «المتلقّين» لمثل هذا الخطاب، وأوّلاً بعقول «الملوّنين» بينهم - وهذه في الجوهر هي نظرتهم إلينا -، وفي خلفياته العنصرية الفجّة والبديهية. المهمّ هو إدراك الفارق بين الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، وسمتُها الرئيسة فقدان قوى الهيمنة الغربية قدرتها على السيطرة والتحكّم بتحوّلات العالم، وبين تلك التي سادت عندما كانت القوى المذكورة تتمتّع نسبياً بمثل هذه القدرة.

«طوفان الأقصى» في «عالم فوكا»
شكّلت ملحمة «طوفان الأقصى» مفاجأة إستراتيجية كبرى لأفرقاء المواجهة المحتدمة على أرض فلسطين وفي الإقليم، ولأبرز الأطراف الدولية. المعلومات التي باتت متوافرة عن مجريات هذه الملحمة تفيد بأن منظّمات المقاومة الفلسطينية التي بادرت إليها لم تكُن تتوقّع إنجازاً ضخماً وإستراتيجياً بحجم ذلك الذي تَحقّق في الميدان. تلك هي المفاجأة الأولى التي أتاحت هزّ المرتكزات التي تأسّس الكيان الغاصب عليها، وأبرزها أنه «ملاذٌ آمن» لليهود، وأنه قاعدة وظيفية للإمبرياليات الغربية المتفوّقة عسكرياً وتكنولوجياً على دول وشعوب المنطقة وحركاتها المقاومة مجتمعة، وأنه أضحى قوة إقليمية عظمى قادرة على حماية ودعم الأطراف الإقليمية المطبّعة معه في مقابل أيّ «مخاطر» تتعرّض لها. المفاجأة الثانية، وثيقة الصلة بالأولى، هي مدى الانهيار الذي وصل إليه الجيش الإسرائيلي بالنسبة إلى جهوزيته على المستويات العسكرية والاستخبارية وإلى استعداده للقتال. أمّا المفاجأة الثالثة، فترتبط بردّ الفعل الغربي المسعور والمنفلت من عقاله، والذي تجلّى في قرارات إرسال حاملات الطائرات والسفن الحربية والتلويح بالتدخّل المباشر في المعركة الجارية.
المشهد لا يخلو من درجة عالية من السوريالية: حاملات طائرات وسفن حربية مُعدّة لخوض غمار مجابهات مع قوى عظمى، كالاتحاد السوفياتي السابق أو روسيا الحالية أو الصين، أو حتى قوى إقليمية عظمى، تُرسَل إلى المنطقة لحماية إسرائيل من التهديد المتمثّل في حركات مقاومة شعبية كـ«حماس» في فلسطين أو «حزب الله» في لبنان. يشي ردّ الفعل المسعور هذا بالذهول الذي أصاب قادة الغرب بسبب الانهيار الإسرائيلي أمام عملية «طوفان الأقصى»، وعدم وجود خطط لـ«ردّ متناسب» للتعامل مع مثل ذلك التطوّر غير المتوقَّع تماماً. ليس سرّاً أن إسرائيل جزء عضوي من «الغرب الجماعي» زُرع في المنطقة، ولكنّ ردّ الفعل المُشار إليه، يكشف تعاطي القادة الغربيين مع الحدث وكأنه يشكّل خطراً وجودياً على الكيان، وأن مستقبل الهيمنة الغربية، المتراجعة، أصبح منوطاً بالمباشرة بهجوم مضادّ للإجهاز على صنّاع الحدث ومفاعيله.
فرض مركز الثقل الفلسطيني «الشرق الأوسط» كأولوية مجدّداً، في ظلّ غياب أيّ خطط أو حتى تصوّرات لدى إدارة بايدن


هذه المفاجآت المتتالية والمترابطة، والتي أذهلت الجميع، وإنْ بدرجات متفاوتة، تفيد بأننا اليوم في عصر اللَّايقين، أو «عالم فوكا» (VUCA World)، كما يسمّيه البعض، حيث محاولات التقدير الصحيح للموقف واستشراف المستقبل مَهمّة بالغة المشقّة إن لم تكن شبه مستحيلة. لقد أدّى تضافر جملة من السمات التي طبعت الوضع الدولي منذ تسعينيات القرن الماضي، والمتأتّية عن جملة تحوّلات تكنولوجية واقتصادية واجتماعية وفكرية، وجيوسياسية طبعاً، وأهمّها تراجع الهيمنة الغربية وصعود المنافسين غير الغربيين، إلى تبلور مشهد عالمي لم يخطّط له أحد، تتراجع فيه القدرة على السيطرة وتنتشر فيه درجة عالية من الفوضى. والسمات المذكورة هي: التقلّب الشديد (Volatile)، واللَّايقين (Uncertainty)، والتعقيد (Complexity)، والغموض (Ambiguity)، أو باختصار «عالم فوكا»، وهي كلمة مؤلّفة من الأحرف الأولى للمفاهيم المذكورة. المفاجأة الإستراتيجية الفلسطينية أعمت بصائر قادة الغرب، ما حدا بهم إلى اتّخاذ قرارات هوجاء ومفاجئة بدورهم، مع عدم تيقّنهم ممّا سينجم عنها من نتائج وتداعيات.

عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء
قد يكون أدقّ توصيف لوضع المنطقة هو ذلك الذي قدّمه وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، عندما شبّهها بـ«برميل البارود». دحضت المفاجأة الإستراتيجية الفلسطينية جميع المزاعم والتحليلات الأميركية والغربية عن «تخفيض التوتر»، و«نهاية القضية الفلسطينية»، و«السلام الإبراهيمي»، وغيرها من البلاهات، وأكّدت مرة أخرى أن فلسطين هي مركز الثقل الذي يؤثّر في أهمّ مجريات الأحداث في الإقليم، وفي دينامياته الظاهرة و/أو غير المرئية. بعد الحرب على العراق في عام 1991، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في ذروة هيمنتها، إلّا أنها لم تفلح في فرض مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، المستلهَم من أطروحات شمعون بيريس، بفضل مقاومات شعوب المنطقة والتناقضات التي تضمّنها مشروعها بذاته. وعندما قرّرت، وهي كانت لا تزال في موقعها «الأُحادي»، غزو العراق في عام 2003، وأوعزت إلى إسرائيل بمهاجمة لبنان في عام 2006، في إطار مشروعها لـ«إعادة صياغة الشرق الأوسط» هذه المرّة، فشلت فشلاً ذريعاً نتيجة لمقاومة شعوب المنطقة وصمود دولها الوطنية. اندرجت الحروب المذكورة في إطار مخطّطات تضع المنطقة على رأس جدول أعمال إدارتَيها، ولكنها فشلت.
قد يكون أبرز متغيّر بين تلك الأيام وزماننا الراهن هو التغيّر المتسارع في موازين القوى الدولية لغير صالح الولايات المتحدة، والمواجهة المتنامية مع أندادها الإستراتيجيين في الصين وروسيا، وانحسار قدرتها على إلزام «شركائها» غير الغربيين بجدول أعمالها الإستراتيجي. إضافة إلى ذلك، فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ الولاية الثانية لباراك أوباما، كرّرت على مسامعنا مقولةَ أن الشرق الأوسط لم يعُد أولوية بالنسبة إلى واشنطن، وأن التصدّي لتنامي أدوار بكين وموسكو حلّ في مكانه. لكنّ مركز الثقل الفلسطيني عاد ليفرض «الشرق الأوسط» كأولوية مجدّداً، في ظلّ غياب أيّ خطط أو حتى تصوّرات لدى إدارة جو بايدن. تعتقد هذه الأخيرة أن المزج بين إطلاق العنان للإجرام الصهيوني، والوعيد بتوسيع دائرة المذابح لتشمل بلداناً أخرى، واجترار الوعود عن «بناء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل»، سيفسح في المجال أمامها لاستعادة المبادرة والتحكّم بالتطورات مجدّداً. أليس من عقلاء، أو من «ناضجين في الغرفة» كما يقول الأميركيون، لنصحها بمراجعة حساباتها، درءاً للجحيم القادم؟ ربّما هناك بعض العقلاء، لكننا لم نرَ أثراً لنصائحهم على السياسات المعتمدة حتى اللحظة.