لندن | أخفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في اجتماعهم في لوكسمبورغ، الإثنين، في التوصّل إلى اتّفاق في شأن الدعوة إلى «هدنة إنسانية» تَسمح بعبور المساعدات إلى الفلسطينيين المحاصَرين في قطاع غزة تحت قصف إسرائيلي مكثّف منذ أكثر من أسبوعَين. ولم يجرؤ الوزراء المجتمعون للتحضير لقمّة الاتحاد العادية، والتي تفتتح أعمالها في العاصمة البلجيكية، بروكسل، اليوم، وتُختتم مساء يوم غدٍ الجمعة، حتى على المطالبة بوقف إطلاق النار، رغم ربْطهم «الهدنة» بـ«إعادة الرهائن» الذين تحتجزهم فصائل المقاومة في القطاع. وفي هذا الإطار، اكتفى وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي رأس الاجتماع، بمطالبة الحضور بالتوافق على تضمين البيان الختامي لقمّة بروكسل «دعوة إلى هدنة إنسانية»، مشيراً إلى أن التكتُّل «قد لا يبني توافقاً تامّاً» حول الدعوة إلى وقف الأعمال العدائية، ولكنّه سيبعث برسالة ضمنية مفادها بأنه يؤيّد هدنةً تتيح تدفّق المساعدات الإنسانية الملحّة إلى القطاع. وزعم بوريل بأن ثمّة إجماعاً أساسيّاً تَحقّق، وإنْ من دون حسم نهائي للأمور، ولكن ديبلوماسيين على علم بمجريات الاجتماع، قالوا إن أيّ توافق لم يتحقّق بعد، وإن انقسامات حول اختيار الكلمات تسبّبت في ترحيل الموضوع برمّته إلى اجتماع ممثّلي دول الاتحاد - على مستوى السفراء -، والذي عُقد أمس تحضيراً للقمّة، وأخفق بدوره في حسْم الخلافات، ما من شأنه أن يلقي بالأمر على عاتق القمّة نفسها لاتّخاذ قرار حول صيغة نصّ بيانها الختامي.وكانت مواقف قادة الاتحاد قد تلاقت بعد السابع من تشرين الأول، حول دعم ما سمّاه هؤلاء «حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس»، لكن مواقف المفوضية الأوروبية شديدة الانحياز إلى إسرائيل، تعرّضت لعاصفة انتقادات من جانب دول أعضاء في الاتحاد، وأيضاً منظّمات وشخصيّات سياسية أوروبية مرموقة، ما استدعى ربْط «الحقّ في الدفاع عن النفس» بما يتماشى مع «القانون الدولي»، في موازاة تأكيد مبدأَي «حلّ الدولتين» و«حماية المدنيين»، من دون الدعوة إلى إنهاء الأعمال العدائية أو وقْفها. ويبدو أن عدداً من الدول، من بينها هولندا وإسبانيا وإيرلندا ولوكسمبورغ وسلوفينيا، تدفع في اتّجاه أن تخلص قمّة بروكسل إلى مبادرة تسمح بوصول المساعدات إلى الفلسطينيين المحاصَرين في غزة - وإنْ في صيغ متباينة لغوياً بين «هدنة إنسانية» و«وقف لإطلاق النار» و«فتحٍ لممرّات إنسانية» -، فيما تذهب دول أخرى، مِثل ألمانيا والنمسا والتشيك، إلى الزعم بأن الكارثة الإنسانية في القطاع نتاج لـ«الإرهاب»، وبالتالي، فإن الجهود يجب أن تنصبّ على «مكافحة الإرهاب»، لا البحث في صيغٍ لِهدَن إنسانية قد تضع المساعدات في يد «إرهابيّي حماس».
ويبدو واضحاً أن هجمات السابع من تشرين الأول، تسبّبت في صدمة للعقل الأوروبي، الذي عاش منذ بعض الوقت على وهم مِنعة إسرائيل، والاعتقاد بأن استمرار تدفّق الأموال من بروكسل نحو الأراضي العربية المحتلّة - سواءً عبر السلطة الفلسطينية، أو منظّمات المجتمع المدني - كفيل بتثبيت حدٍّ أدنى من الاستقرار وتجنّب العنف. وسارع قادة أوروبيون كبار، سواءً على مستوى المفوضية والمجلس الأوروبي، أو على مستوى قادة الحكومات (الألماني أولاف شولتس، والبريطاني ريشي سوناك)، إلى الحجّ إلى إسرائيل، وإظهار التضامن العلني والصريح مع حكومتها. على أن الفظائع التي ترتكبها الآلة العسكرية الإسرائيلية على مدار الساعة ضدّ المدنيين في غزة، أثارت الشارع الأوروبي، وأَظهرت أن قطاعاً عريضاً منه لا يدعم مواقف حكومات الاتحاد السافرة في الانحياز إلى إسرائيل، ولا يثق بالصحافة الأوروبية التي لا تسمّي الأمور بمسمّياتها، لا بل ويتعاطف مع النضال الفلسطيني ضدّ الاحتلال. وانكشف خواء الخطاب السياسي الأوروبي أمام جمهوره، بعدما ظهر التباين فاقعاً بين الإدانة الصاخبة لروسيا واتّهامها بارتكاب جرائم حرب ضدّ المدنيين عندما تقطع إمدادات الطاقة عن المدن الأوكرانية، وبين الدعم الثابت لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولو تضمّن ذلك قطْع إمدادات الطاقة والمياه والكهرباء عن مليونَي نسمة في قطاع غزة.
يتمثّل أحد المخاوف في تحوّل الموضوع الفلسطيني إلى مصدر استقطاب داخل المجتمعات الأوروبية


على أن ثمّة خبراء يعتقدون بأن تضامن النخب الأوروبية الحاكمة مع الدولة العبرية، ليس متأتّياً بالضرورة من انحيازات ثقافية جذرية، بقدْر ما هو انعكاس لخليط من المخاوف المتجذّرة في دوافع أكثر أنانية. ويتخوّف هؤلاء من تحوّل الموضوع الفلسطيني إلى مصدر استقطاب داخل المجتمعات الأوروبية، على نحوٍ قد يعيد إثارة أجواء من العداء الشعبي لليهود، و«الإسلاموفوبيا»، وما قد تجرّه تلك الأجواء من احتقان على مستوى الشارع. وكانت الصحف قد نقلت، هذا الأسبوع، تصريحات لوزيرة العدل الهولندية - المرشّحة الأوفر حظّاً لتولّي رئاسة الوزراء هناك -، ديلان يشيلغوز-زيغيريوس، حذّرت فيها من استمرار العنف في الشرق الأوسط، وقالت إنه «سيترجَم على نحو أو آخر إلى عنف داخل المجتمعات الأوروبية». ومن جهته، اعتبر رئيس جهاز الأمن البريطاني «MI5»، كين ماكالوم، أن «الحرب على غزة يمكن أن تكون حافزاً لنشوء موجات من (الإرهاب الإسلامي)، والعداء للسامية، والإسلاموفوبيا لن تنحسر سريعاً، وسيكون لها ضحايا». كما شدّد عدد من الدول، من بينها بريطانيا وهولندا، من إجراءاتها لحماية اليهود ومؤسّساتهم ومعابدهم، فضلاً عن البعثات الديبلوماسية الإسرائيلية، بعدما لوحظ تصاعُد لافت في جرائم الكراهية الموجّهة ضدّها. ومن بين المخاوف الرائجة أيضاً، إمكانية توسُّع رقعة النزاع بدخول أطراف ثالثة على الخطّ، ما قد يطلق موجة لجوء جديدة تجاه القارة، ويمنح الشعبويين اليمينيين المتطرّفين مزيداً من الأدوات للصعود إلى السلطة على حساب النخبة الليبرالية.
ويضاف إلى تلك المخاوف، إحساس عميق لدى القادة الأوروبيين بالعجز، وتقلُّص النفوذ، وانعدام القدرة على التأثير في الأحداث؛ إذ كان لهؤلاء مِن قَبل، أن يدّعوا لعب دور مهمّ في قضايا الشرق الأوسط - لو خلف الولايات المتحدة - ولا سيما في ثمانينيات القرن الماضي، فإنهم في استحقاق غزة، اليوم، يكتفون بالجلوس على مقاعد المتفرّجين والهتاف للفريق الإسرائيلي، بعدما أخفقوا قبلها في استدراج دول الجنوب للوقوف في الخندق الأوكراني ضمن التوزّع الجديد لأوراق القوّة في النظام العالمي، وصعود محور موسكو - بكين. وتفسّر هذه الهواجس، إلى حدّ بعيد، تحوُّل موضوع الحرب على غزة إلى ثيمة رئيسية في مداولات قمّة بروكسل، رغم أنها ليست على جدول الأعمال الرسمي، والذي يتركّز على ضمّ أوكرانيا إلى الاتحاد وأوضاع الحرب هناك، ومناقشة الإطار للإنفاق المالي حتى عام 2027، بما في ذلك الموازنات المخصّصة لاستيعاب أعضاء جدد، إضافةً إلى المسائل الاقتصادية وتلك المتعلّقة بالهجرة.