مع استشراس العدوان على المدنيّين في قطاع غزة، وبلوغ «التعطّش» الإسرائيلي لاستعادة بعض «الاعتبار» في أعقاب العملية التي نفّذتها حركة «حماس» في السابع من تشرين الأول، حدّ ارتكاب ممارسات إجرامية «جنونية» بحق الفلسطينيين، يَظهر أنّ الانقسام، على الساحة العالمية، بدأ يأخذ شكل معسكريَن «غير مُعلَنين»، الأول بقيادة واشنطن، التي تعهّدت بدعم «غير مشروط» لإسرائيل؛ والثاني بقيادة بكين، التي دعت، منذ اللحظة الأولى، إلى وقف إطلاق النار و«حلّ النزاع بشكل سلمي»، وحرصت، بالتوازي، على تبنّي موقف متمايز عن الولايات المتحدة، التي تزعم علناً أنها تبحث، بدورها، عن مثل هذا الحلّ. ويبقى اللافت أن عدداً من الدول، ولا سيما في الجنوب، قرّرت تبنّي موقف مشابه لما ذهبت إليه الصين، معتبرةً أن ما يحصل اليوم في غزة هو نتيجة حتمية لعقود من الاضطهاد المُرتكب بحق الفلسطينيين.
في السياق، وعلى الرغم من الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، مع نظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، في الرابع عشر من هذا الشهر، مكرّراً موقف بكين الثابت، المتمثّل في ضرورة وقف إطلاق النار، والتوصّل إلى تهدئة لتجنّب تفاقم الكوارث الإنسانية، وفتح ممرّ الإغاثة الإنسانية في أقرب وقت ممكن، وردّ بلينكن بما معناه أن الجانب الأميركي يتبنّى الموقف نفسه، فقد بدت الصين، جنباً إلى جنب روسيا، حريصة على عدم الانجرار خلف السردية الأميركية، ما أثار حفيظة كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتَين تستشعران «خطورة» مثل هذا الموقف، وانسحابه المتزايد على دول أخرى ومسؤولين آخرين حول العالم.
على سبيل المثال، وإلى جانب الامتناع منذ بداية الحرب عن استخدام أيّ مصطلح على علاقة بـ«الإرهاب»، في تصريحاتها الرسمية، لدى الحديث عن هجمات «حماس»، فقد رأت الصين، أخيراً، أن «الضربات الانتقامية الإسرائيلية» على غزة، تجاوزت ما هو مقبول في إطار القانون الإنساني الدولي، فيما أكّد وزير الخارجية الصيني، السبت الماضي، أن «تصرّفات إسرائيل تجاوزت نطاق الدفاع عن النفس»، معتبراً، في حديث مع وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أن هجوم «حماس» لا يبرّر ارتكاب «عقاب جماعي» بحق الشعب الفلسطيني. وفي وقت سابق، كان المسؤول الصيني نفسه قد رأى أن القضية الفلسطينية لا تزال «جرحاً مفتوحاً ينزف في عالم اليوم»، لافتاً إلى أن «أساس هذه القضية يكمن في انعدام تحقيق التطلّع إلى إقامة دولة فلسطين المستقلّة لمدّة طويلة، وانعدام تصحيح الظلم التاريخي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني».
وفي حديث مع صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، وبهدف توضيح موقف الصين من مقاتلي «حماس»، يستذكر تشو ويلي، الأستاذ في «جامعة شنغهاي الدولية للدراسات»، الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006، والتي فازت «حماس» في أعقابها بغالبية ساحقة، قائلاً: «قد يكون لـ(حماس) جانب راديكالي، إلا أنّها منظمة شرعية في فلسطين، وتحظى باعتراف الدول العربية». ويتابع: «الأمر ليس بيد الأجانب أو الدول الأخرى لتعريفها على أنها جماعة إرهابية». وبناءً على المعطيات التي تقدّمت، اعتبرت الصحيفة أنه على «خلاف ما حصل مع (حماس)، فإن الصين لم تتردّد، أخيراً، في توجيه انتقادات مباشرة إلى إسرائيل».

التنسيق مع موسكو
تزامناً مع ذلك، يبرز «التنسيق» الروسي - الصيني بشكل واضح في هذا الملفّ. فقد نقلت وسائل إعلام رسمية صينية عن مبعوث الصين الخاص إلى الشرق الأوسط، تشاي جيون، قوله، بعد لقاء مع نظيره الروسي، ميخائيل بوغدانوف، في الدوحة الخميس الماضي، إن بكين وموسكو «تتبنّيان الموقف نفسه بشأن القضية الفلسطينية»، مؤكداً أن الصين مستعدّة لمواصلة الاتصالات والتنسيق مع روسيا، لتهدئة الأوضاع، ومشيراً إلى أن «سبب الأزمة الحالية في قطاع غزة يعود إلى عدم ضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني».
في المقابل، وفي إطار الهجوم على الموقفَين الصيني والروسي، اعتبر تقرير لشبكة «سي أن أن» الإخبارية، في أعقاب استقبال الرئيس الصيني، شي جين بينغ، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، كضيف شرف في بكين، الأسبوع الماضي، أن الزيارة أكدت على رؤية بوتين وشي لنظام عالمي جديد، «يعطي أولوية لدعم الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل المدعومة من الغرب». وأشار التقرير إلى أن بكين وموسكو رفضتا إدانة هجمات «حماس»، وأن بوتين «حمّل واشنطن مسؤولية الحرب». والظاهر، أيضاً، أن المواقف الصينية، التي لا تتبنّى الأكاذيب الإسرائيلية والغربية، لا تروق إسرائيل كذلك، ولا سيما أن الأخيرة ندّدت، إلى حدّ كبير، بجهود الصين «لتقديم نفسها على أنها وسيط محايد»، معتبرةً أن الوقت ليس مناسباً للحديث عن «حلّ الدولتَين»، في وقت «يُذبح فيه الناس في الشوارع» على حدّ زعمها.
بعيداً من «خصوم واشنطن»، فقد بدأت ملامح الرفض لممارسات العدوّ الإجرامية تبرز في المعسكر الغربي أيضاً


ومن خلف بكين وموسكو، يبرز المزيد من الدول، التي ترفض الانتهاكات المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. وفي السياق، يرد في تقرير في «صحيفة الصين الجنوبية الصباحية»، أنه على الرغم من دعوة إدارة بايدن العالم إلى الوقوف إلى جانب حليفتها إسرائيل، فإن الكثيرين، في جنوب الكرة الأرضية، «انتقدوا الدولة اليهودية بسبب احتلالها الأراضي الفلسطينية، وممارسة التمييز والقمع الأشبه بالفصل العنصري بحق الفلسطينيين». ومن بين هؤلاء، رئيس دولة جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، الذي أعلن، خلال مشاركه في تظاهرة داعمة لفلسطين في بلاده، أن الأخيرة تدعم الفلسطينيين «الصامدين أمام الاحتلال الإسرائيلي لما يقرب من 75 عاماً».
وبعيداً من «خصوم واشنطن»، فقد بدأت ملامح الرفض لممارسات العدوّ الإجرامية تبرز في المعسكر الغربي أيضاً، إذ دعا، مثلاً، مسؤولون إسرائيليون، الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى «الاعتذار والاستقالة»، في أعقاب تصريحات أدلى بها أخيراً، وحذّر فيها من ممارسة «العقاب الجماعي بحق الشعب الفلسطيني»، معتبراً أن «الشعب الفلسطيني خضع على مدى 56 عاماً للاحتلال الخانق»، ومشدداً، أمام الهيئة، على ضرورة الإقرار بأن «هجمات (حماس) لم تأتِ من فراغ».