اعتادت السعودية اتخاذ مقعد خلفي في الحروب بين فصائل المقاومة والاحتلال الإسرائيلي، لكن مقعدها الخلفي هذه المرة له أسباب إضافية، ويبدو مدفوعاً باعتقاد الرياض بقدرتها على الاستفادة من الجولة، مهما كان الاتجاه الذي ستنتهي إليه رياحها، أي سواء نجحت إسرائيل في تحقيق هدفها المتمثل في إطاحة «حماس»، أو انتصرت المقاومة المسلحة على الجيش الإسرائيلي الذي يتصرّف كثور هائج.
أولاً: الحديث مع الجميع
هذه أول حرب تقوم بعد عودة الودّ بين السعودية و«حماس»، حين قام وفد بقيادة إسماعيل هنية، في نيسان الماضي، بزيارة الرياض، في أعقاب «اتفاق بكين».
وربما، هذه هي المرة الأولى أيضاً منذ عقدين، التي تملك السعودية فيها علاقة حسنة مع الأطراف المقاوِمة التي تواجه واحدة من أخطر الحروب الأميركية ضد غزة ومقاومتها، على حدود الكيان وفيه. وتحتفظ المملكة حالياً بعلاقات إيجابية مع إيران والعراق وسوريا، ونسبياً مع «حماس» و«أنصار الله». وقد خفّف ذلك من تبادل النقد اللاذع بين المحورين السعودي والمقاوم.
هذا متغيّر جديد. وبإمكان المملكة راهناً الحديث مع المحور المقاوِم ومع الأميركي، بينما كانت السعودية قد أمضت العقود الماضية في توتّر متذبذب مع إيران وشركائها. وحين اندلعت حرب غزة عام 2014، كان الخلاف السعودي - «الحمساوي» مستعراً، لأسباب «مبدئية» مضادة لـ«حماس» وتوجّهاتها، وليس فقط لتعاطف الأخيرة مع حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، والذي رأته السعودية تهديداً. كما تزامنت حرب 2014 مع صراع فاحش الدموية، أميركي - إيراني، على أرض سوريا، اصطفّت فيه الرياض إلى جانب واشنطن.
ووصلت علاقات السعودية بإيران إلى أسوأ محطاتها، عام 2015، بسبب حرب اليمن. وفي 2017، اشتد الصراع مع تركيا وقطر.

ثانياً: بين غزة وأوكرانيا
لا تبني السعودية سياستها الخارجية على أولوية فلسطين، كما حال إيران، ولا على أولوية حماية الكيان، كما تفعل أميركا. ولا ترى الرياض الصراع في فلسطين حربها، وإنما تعدّه حرباً بين أميركا وإيران على الأراضي الفلسطينية، ولا تجد نفسها معنية بالاصطفاف مع أيٍّ منهما فيها. وعلى رغم أن كييف ليست القدس، وأوكرانيا ليست فلسطين، القضية العربية الأبرز، إلا أنه من الناحية الفعلية، ومع الفارق، تعتمد الرياض موقفاً من حرب غزة 2023، يمكن قياسه بالموقف الذي تبنّته من حرب أوكرانيا: تكرار الدعوة إلى وقف إطلاق النار، إيجاد حل سياسي، احترام القانون الدولي، البعد الإنساني منه خصوصاً، وغيرها من الأمور التي لا تثير غضب الأطراف الرئيسة.
في أوكرانيا، كان من شأن اندفاع السعودية نحو تأييد مطلق لأميركا أن يؤدي حتماً إلى كسر أسعار النفط، ويسدد ضربة للتمويل الضروري لتحويل المملكة إلى قوة اقتصادية. ثم إن هذا التأييد لا يضيف زيادة تذكر على العلاقات الوطيدة بين المؤسسات الغربية والدولة السعودية. في أوكرانيا، لا يغيّر انتصار المعسكر الغربي كثيراً في تموضع المملكة؛ فجلّ بيضها في الحضن الأميركي، في حين أن انتصار روسيا سيدفع أميركا إلى أن تكون أكثر حرصاً على العلاقة مع السعودية، مع أن القصة أعقد من ذلك، بالنظر إلى التداعيات الدولية الكبرى، التي لم تنضج بعد.

ثالثاً: «حماس» وإسرائيل سيّان
قد تبسط العبارة السابقة المشهد المحتدم أكثر من اللازم. لكن عموماً، من وجهة نظر الرياض، سيزيد نجاح «حماس» من نفوذ المحور الإيراني، وهذا سيشجّع واشنطن على الحرص على دفع ما يتوجّب من أثمان لضمان رفع علم الاحتلال في قلب الجزيرة العربية. أما نجاح إسرائيل في خنق «حماس»، فسيؤدي إلى إضعاف إيران، وهو هدف ثمين للسعودية. ثم إن وقوف المملكة ضد إسرائيل سيجلب غضب العم سام. وفي الوقت نفسه، وإذ لا تتوقّع منها مناصرة «حماس»، فإن وقوفها ضد فلسطين، أو مع إسرائيل، سيُسقط من يدها ورقة تفاوض في الوصول إلى اتفاقيات أمنية مع أميركا، فضلاً عن خساراتها على صعيد القوة الناعمة، من دون ثمن.
ستفعل الولايات المتحدة كلّ ما في وسعها لحماية طفلتها المدللة إسرائيل، ومدّها بالسند السياسي والعسكري لحرق الأخضر واليابس في غزة. ومن جهتها إيران، كما عوّدتنا، تستميت في الدفاع عن حلفائها، وقد منعت سقوط بشار الأسد في دمشق، و«أنصار الله» في اليمن، والتحالف الحاكم في بغداد، وتمدّ «حزب الله» بما يحتاج إليه من سند، وترى أنّ سقوطه خطّ أحمر. وهكذا، ستفعل طهران كل ما بيدها لمنع انهيار المنظومة «الحمساوية» في غزة، بما في ذلك تفعيل مقولة «وحدة الساحات»، والتي بموجبها تسقط الحمم من لبنان واليمن والعراق وسوريا على الحلف الأميركي.

رابعاً: انعدام المبادرة
الرياض ترى نفسها في موقع القادر على الحديث مع الأطراف ذات العلاقة. ومع ذلك، لم تقدّم مبادرة لحلحلة ملف الأسرى، مثلاً، بين الكيان و«حماس»، فيما كانت قد قامت بدور بين روسيا وأميركا، أدى إلى تبادل أسرى حرب روس وأوكران وغربيين في أيلول 2022. في الحالة الفلسطينية، انصبّت المبادرات السعودية الرئيسة تقليدياً حول «المصالحة العربية - الإسرائيلية»، من مبادرة الملك فهد في 1981، إلى «مبادرة السلام العربية» لعام 2002، والتي أُزيلت راهناً عن الطاولة. لكن الأدهى، ما نقرأُه في بيان مجحف موقّع من تسع دول عربية، يرى أن من حق إسرائيل الدفاع عن النفس، بالاستناد إلى ميثاق الأمم المتحدة، الذي يمنح الدول - وليس «الميليشيات» - هذا الحق، فيما يخلو البيان من الإشارة إلى حق الفلسطينيين في حمل السلاح للذود عن أراضيهم المحتلة، كما هو القانون الدولي. ولا تقلّل من سوء البيان الدعوة إلى حماية المدنيين ووقف إطلاق النار، فهذه دعوات تتكرّر غربياً، لإكمال المشهد. وبمجرّد أن تُعطي الاحتلال الحق في شنّ عدوان، تحت عنوان الدفاع عن النفس، فإن الديباجات التالية تفقد معناها. هو بيان سيئ إذاً يجاري الموقف الغربي، وكأن الولايات المتحدة هي التي أملته.

خامساً: المساعدات الخليجية

«الحياد» السعودي، في الوقت الحالي، يطاول المستوى الإغاثي الذي يفترض أنه من أكثر ما تبْرَع فيه الرياض. وبينما أعلنت أبو ظبي والدوحة، مبكراً، وصول مساعدات إلى معبر رفح المصري، انتظرت السعودية انعقاد اجتماع لوزراء خارجية «مجلس التعاون الخليجي»، في 17 الجاري، لإعلان تقديم مساعدات خليجية بمبلغ 100 مليون دولار، على أمل أن «لا تصل إلى يد حماس». عادة ما تعلن كلّ دولة خليجية عن المساعدات التي تقدّمها للغير، وليس من تفسير للموقف السعودي غير الحياد، والحياد كلمة ديبلوماسية. فالحياد السعودي موقف سلبي، راكم اصطفافات إقليمية مضادة للمقاومين، وأضرّ بهم. وفوق ذلك، وبسبب ضغط أميركي، تدقّق دول الخليج في التبرّعات المرسلة إلى قطاع غزة، وفي استثمارات «حماس» الخارجية.