انقطاع شبه تام في خدمات الاتصالات، والإنترنت، بنسبة قاربت الـ90%، مصحوبٌ بأزمة نقص حاد في الإمدادات الأساسية، من وقود وغذاء وأدوية؛ هكذا أعدّت إسرائيل لبدء توغّلها البرّي في غزة، في موازاة تكثيف الغارات الجوية التي بلغت 150 غارة، ليل الجمعة - السبت، وبصورة خاصّة في شمال القطاع المحاصَر. وبهذا التدمير الكارثي، أرادت أن تبدو أمام العالم، ومن ضمنه شركاؤها الإستراتيجيون في واشنطن، جاهزة لمعركة تقول إنها ستكون «طويلة» و«صعبة».الإعلان عن التوغّل البرّي، وإنْ بدا محدوداً إلى الآن، جاء على لسان أعلى هرم السلطتَين السياسية والعسكرية في إسرائيل، حين «زفّ» رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، لجمهوره، وللعالم، قرار إطلاق ما وصفه بـ«المرحلة الثانية من الحرب» ضد حركة «حماس». على أن ما أعلنه يرقى إلى ما يمكن وصفه بـ»نصف قرار»، ولا سيما أنه لم يشمل إعلاناً عن اجتياح برّي للقطاع كثُر الحديث عنه أخيراً، في ما يمكن إدراجه في إطار الإرباك الحاصل على مستوى الدوائر العسكرية والسياسية الإسرائيلية. وفي ظلّ عدم نشر معلومات تفصيلية حول مسار تحرّك جيش الاحتلال انطلاقاً من حدود القطاع، والمترافق مع قصف غير مسبوق، جاء حديث الناطق باسم الجيش، دانييل هاغاري، مقتضباً ومبهماً حول العمليات التي تنفّذها قواته في الجزء الشمالي من غزة، إذ اكتفى بالقول إنّها «تُوسّع نشاطها البرّي هناك، توازياً مع زيادة حجمها وعديدها». ومن جهته، أكّد رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، أنّ «أهداف الحرب تتطلّب دخول الأرض»، مشدّداً على أن «لا إنجازات من دون مخاطر... ولا انتصار من دون ثمن».

جرى استبعاد تنفيذ عملية برية واسعة، في ظلّ الظروف الراهنة (أ ف ب)


خبراء عسكريون ورؤساء حكومات سابقون يدلون بدلوهم
الثابت، أنّ مديات ونطاق هذا التحرّك الميداني المستجدّ، والمتركّز على التقدّم في اتّجاه بعض الجيوب في شمال القطاع وجنوبه، وبخاصّة على المحور الشمالي الشرقي لبيت حانون، كل ذلك يؤكد عدم حسم مسألة السير في عملية برية واسعة النطاق؛ إذ يشير محلّلون غربيون إلى أن وتيرة العمل العسكري للقوات البرية الإسرائيلية على تخوم الجبهة تدور على نطاق أصغر وأضيق، مقارنةً بما أُشيع سابقاً عن النيّة ببدء هجوم تشارك فيه قوة لا يقلّ عديدها عن حجم فرقة. ويعتبر هؤلاء أن أحد العوامل الكامنة خلف هذه الوتيرة البطيئة يرتبط بجملة صعوبات تواجهها القوات الإسرائيلية، لعلّ أبرزها شبكة الأنفاق التي أنشأتها «حماس»، والتي يصل عمق بعضها إلى 130 قدماً، وجوانب أخرى ميدانية تتعلّق بكفاءة المقاومة الفلسطينية في «حرب المدن»، وبحجم الوقت والموارد اللذيْن يتطلّبهما خيار الاجتياح، فضلاً عن جوانب سياسية تتصل بالموقف الأميركي. ومن منظور المراقبين الغربيين، فإنّ «تناقضاً جوهرياً» يعتري أهداف حكومة نتنياهو في غزة، إذ إنها تعمل على «اجتثاث حماس»، من ناحية، وتجهد لاستعادة قرابة 200 من الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الحركة، والفصائل الفلسطينية الأخرى، من ناحية أخرى.
وشكّل الحديث عن «سيناريوات» العملية البرية، محور اهتمام عدد من القادة الإسرائيليين والأميركيين الحاليين والسابقين، إذ توقّع بعضهم أن تبادر إسرائيل إلى تنفيذ عملية عسكرية برّية على مراحل، بحيث تقوم قوات استطلاع صغيرة الحجم بالتقدّم إلى داخل غزة لتحديد مواقع مقاتلي «حماس» والاشتباك معهم. ولعلّ جانباً من التكتيكات التي يُرجَّح أن تحاول إسرائيل اعتمادها للدخول إلى القطاع، هو ما أورده ميك مولروي، المسؤول الكبير السابق في وزارة الدفاع الأميركية، و»وكالة الاستخبارات المركزية»، والمتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، من أنّه «وبمجرّد اكتشاف نقاط الضعف والفجوات (في خطوط دفاع حماس)، فإن عناصر قوة الاستطلاع (الإسرائيلية) سيبادرون إلى الاستعانة بالقوة الهجومية الرئيسية». ومن جهته، يوضح الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركي، فريدريك هودغز، والذي سبق أن شارك في حرب العراق، أنّ التكتيكات المشار إليها تُعدّ إحدى الوسائل التي تتّبعها القوات الإسرائيلية «للتقليل من خسائرها البشرية أو الحدّ منها»، زاعماً أنها تندرج أيضاً في إطار مساعيها لـ»تلافي إلحاق الأضرار الجانبية» بالمباني.
كذلك، وقبل أيام، عرض رئيس حكومة الاحتلال السابق، نفتالي بينت، «إستراتيجية» تتمحور حول ما يراه إفشال خطط «حماس»، القائمة على عناصر عدّة، في مقدّمتها ما وصفه بـ»ابتزاز» حكومة نتنياهو في ملفّ الرهائن، إضافةً إلى «استنزاف الاقتصاد الإسرائيلي» من خلال اضطرار الحكومة لإعلان التعبئة العامة، وكذلك العمل على «استدراج إسرائيل إلى اجتياح غزة بشكل كامل، وما يعنيه ذلك من إجبار القوات الإسرائيلية على القتال لأسابيع، أو لأشهر على مسرح عمليات مرعب، وغير مألوف بالنسبة إليها»، وما قد ينجم عنه من تفاقم «الضغوط الدبلوماسية» على تل أبيب. وتندرج «إستراتيجية بينت»، ضمن ما يُطلَق عليه «نهج الخنق»، كونها تقضي بإقامة منطقة أمنية عازلة بعمق كيلومترين حول غزة، على أن يُصار إلى تقسيم القطاع من الوسط إلى قطاعَين شمالي وجنوبي، وتحديداً في المنطقة الفاصلة ما بين مدينة غزة، وخانيونس. وينبّه إلى أن الهدف النهائي هو «عزل غزة» على المستوى العسكري، لإراحة الجيش الإسرائيلي، بصورة تتيح وقف حالة التعبئة العامة، وتخفّف الضغط الدولي الناجم عن العملية العسكرية الجوية، مع الاحتفاظ بقدرة عسكرية لتنفيذ مهام برّية مستمرة ومحدّدة الأهداف، على المدى الطويل، من دون الحاجة إلى احتلال القطاع.
لكنّ رئيس حكومة الاحتلال الأسبق، إيهود باراك، وهو جنرال متقاعد، ووزير أمن سابق، يرى أنه «لا سبيل سوى إرسال عشرات الآلاف من الجنود إلى الأرض»، مشدّداً على أن «هذه مهمّة طويلة ودموية»، مع تحذيره من أن المواجهة البرية في غزة تنطوي على احتمالات اندلاع حرب مع «حزب الله»، وتعرُّض المواقع الإسرائيلية في الجولان لهجمات، إلى جانب وقوع اضطرابات خطيرة في الضفة الغربية، تقارب نسبة حدوثها 50%. ويحاول باراك، في مقابلة صحافية، أن يؤكد قناعته بإمكانية تدمير معظم قدرات «حماس»، وإقامة منطقة عازلة على طول الحدود مع غزة، قبل معاودة الانسحاب منها ضمن ترتيبات تكفل تسليمها لقوّة عربية متعدّدة الجنسيات، في مرحلة أولى، والسلطة الفلسطينية في مرحلة ثانية.

لويد أوستن: «المرشد» الأميركي
وبالحديث عن دور واشنطن، فقد حاولت الأخيرة، ومن خلال تسريبات صحافية، الإيحاء بأن مسؤوليها «نصحوا» شركاءهم الإسرائيليين بتأجيل قرار من هذا النوع، وإعادة دراسته، من منطلق «إنساني»، يتعلّق بضرورة ديمومة الجهود الدبلوماسية التي تتولّاها قطر وجهات دولية أخرى، والرامية إلى استعادة الأسرى المحتجزين لدى «حماس»، ومراعاة «القانون الدولي»، ولا سيما لناحية إدخال المساعدات الإغاثية إلى غزة. غير أن تلك «النصائح»، في واقع الأمر، تعكس خشية حقيقية من إمكانية انزلاق الجيش الإسرائيلي نحو مواجهة عسكرية برية واسعة في غزة، هو ليس مستعدّاً لها، وبخاصّة على المستوى البشري، وغير قادر على حسْمها لمصلحته، وسط إمكانية أن تتوسّع إلى جبهات أخرى، وفق مصادر غربية. ما سبق، يتقاطع مع ما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز»، حين أشارت إلى أن «قرار إسرائيل الواضح بالعدول عن القيام باجتياح واسع النطاق لقطاع غزة، والاستعاضة عنه بإجراء المزيد من التوغلات البرية المحدودة، أقلّه حتى الآن، ينسجم مع الاقتراحات التي تقدّم بها وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، كاشفة عن مخاوف كانت تسود أوساط الإدارة الأميركية حيال خطط الهجوم البرّي التي كان يعتزم الجيش الاسرائيلي تنفيذها عقب عملية «طوفان الأقصى»، باعتبارها «تفتقر إلى أهداف قابلة للتحقّق»، في إشارة إلى مساعي «اجتثاث حماس».
ويُحكى أيضاً عن أنه، وفي كواليس سلسلة مباحثات بين قيادات عسكرية إسرائيلية وأميركية، في الأسابيع الماضية، في موازاة اتصالات متواصلة شبه يومية بين أوستن، ونظيره يوآف غالانت، في شأن خيارات إسرائيل في التعامل مع قطاع غزة، جرى استبعاد تنفيذ عملية برية واسعة، في ظلّ الظروف الراهنة، باعتبارها تجاوزاً لخطوط حمر لمّح إليها وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، فضلاً عن كونها تشكّل تهديداً لفرص التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وذلك لمصلحة ترجيح الذهاب نحو عملية قصف كثيف مع توغل برّي محدود تنفّذه القوات الخاصة الإسرائيلية، بغرض الاستطلاع. ويشي مسار ووتيرة تحرّك القوات الإسرائيلية الجاري حالياً في غزة بأن «إسرائيل أخذت بنصيحة الأميركيين، أقله حتى الساعة»، وفق «نيويورك تايمز». والواقع أن جزءاً من كواليس المحادثات الأميركية - الإسرائيلية في شأن خطط الحرب، كشف عنه أخيراً القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية، جوزف فوتيل، حين تطرّق إلى سيناريوات شملت خيارَي «الاجتياح الكامل والدائم» للقطاع، و»التقدّم السريع نحو مواقع رئيسية» داخله، على أن يتمّ توظيفها في شنّ هجمات ضدّ عناصر «حماس» وبنيتها التحتية، فضلاً عن خيار ثالث هو «الأذكى»، يرتكز على سلاح الجوّ بصورة أساسية، في موازاة الزجّ بقوات برية صغيرة، تقوم بعمليات إغارة سريعة، ومركّزة. ومع ذلك، يلفت مصدر عسكري أميركي، في حديث إلى «المونيتور»، إلى أنّ «هذا هو النهج الذي استخدمناه ضدّ تنظيمَي القاعدة وداعش»، محذّراً، في الوقت نفسه، من أنّ «هناك مستوى عالياً من المخاطر الناجمة عنه، ذلك أن القوات تبقى عرضة للاكتشاف باستمرار من قِبَل العدو».