وسّع جيش الاحتلال الإسرائيلي عملياته البرية في قطاع غزة، زاجّاً بقواته المدرّعة والمشاة في أكثر من محور، غير أنه، وبخلاف نهجه الدعائي والإعلامي الذي اتّبعه سابقاً، وخصوصاً في عدوان «الجرف الصامد» قبل تسع سنوات، يَفرض هذه المرّة تعتيماً إعلامياً واسعاً على المعارك الدائرة. قد تكون دواعي هذا التعتيم «عسكرية»، ولكنْ ثمة أيضاً «أسباب أخرى»، وفق أستاذ العلوم السياسية الصهيوني، باروخ ليشم، الذي يشرح أن جيوش الدول الغربية الحديثة تتبع «مفهوماً مؤسَّساً على التعاون مع وسائل الإعلام في وقت الحروب»، افتراضاً منها أن العمليات الحربية تحتاج إلى توضيح وتفسير، وحتى إلى تبرير، سواء على مستوى سيرها وتطوّراتها، أو على مستوى نتائجها؛ إذ «تلعب وسائل الإعلام عمليّاً دوراً مهمّاً في تقديم موقف الجيش، وخلْق رأي عام مؤيّد لموقفه».ويُعد الجيش الأميركي، بحسب ليشم، «أحد الجيوش الرائدة في هذا المجال، نظراً إلى الأهمية التي يوليها لصدى الرأي العام الأميركي». فخلال غزو العراق عام 2003، عقب هجمات الحادي عشر من أيلول، أدار الجيش الأميركي المعركة الدعائية على مستويَين اثنَين: الأول، عبر التقرير اليومي الذي كان يقدّمه الناطق باسم التحالف، الجنرال فينسنت بروكس، من مركز اتصالات «سنتكوم»، والثاني من خلال المراسلين والمُصوّرين العسكريين التابعين للقنوات التلفزيونية الذين انضمّوا إلى المعارك الميدانية، ونقلوا الوقائع مباشرة، وفقاً لشروط الرقابة العسكرية.
استنسخ الجيش الإسرائيلي النموذج الأميركي خلال عدوان تموز على لبنان عام 2006. وخلال تحقيقات «لجنة فينوغراد» في إخفاقات الحرب، قالت وزيرة المواصلات الحالية، ميري ريغيف، الناطقة باسم الجيش في حينه: «بذلنا جهداً كبيراً من أجل استقدام الصحافيين والمراسلين العسكريين والمصوّرين إلى الميدان لنقل الوقائع، انطلاقاً من المثل القائل إن الصورة بألف كلمة». وكانت اللجنة، التي ضمّت جنرالَين متقاعدَين، تحفّظت على هذه السياسة، خالصةً في توصياتها إلى أن «الطريق الذي سلكه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي... هَدف إلى نقل معلومات مُحَدّثة وموثوقة للجمهور. ولكن كان من الممكن تحقيق كلّ ذلك من دون الوصول غير المقيّد للصحافيين إلى مناطق النشاط الفعليّة، ومن دون البثّ المباشر من المنطقة، والذي كان غير خاضع للرقابة العسكرية».
وخلص ليشيم، والبروفيسور في الاتصالات والإعلام، يحيئيل ليمور، اللذان بحثا في السياسة الإعلامية والدعائية للجيش الإسرائيلي في العدوانَين الرئيسَين السابقَين ضدّ قطاع غزة - «الرصاص المصبوب» (2008-2009)، و«الجرف الصامد» (2014) -، إلى أن «تغييرات جوهرية طرأت في سلوك الناطق باسم الجيش الإسرائيلي تجاه وسائل الإعلام». في العدوان الأول الذي استمر 22 يوماً، اعتُمدت السياسة الإعلامية والدعائية التي أوصت بها «لجنة فينوغراد»، وهي الحدّ الأدنى من الاتصال بين ضباط الجيش والصحافيين، وحظر دخول المراسلين العسكريين إلى مناطق القتال. وكان الناطق، هو الوحيد المخوّل إصدار البيانات للجمهور يومياً. أمّا في عدوان «الجرف الصامد»، والذي استمر 51 يوماً، فاتّبع الجيش، بحسب الباحثين، «سياسة أكثر انفتاحاً». وتبيّن وفقاً للدراسة أنه في 59 حالة، انضمّ مراسلون عسكريون إلى الوحدات العسكرية والقادة العسكريين الذين عملوا ميدانياً في غزة، حيث أجريت 517 محادثة ومقابلة بين المُراسلين وضباط الجيش، ومن ضمنهم رئيس هيئة الأركان في حينه، بيني غانتس، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) آنذاك، أفيف كوخافي، وقائد المنطقة الجنوبية، سامي ترجمان.
تلعب وسائل الإعلام عمليّاً دوراً مهمّاً في تقديم موقف الجيش، وخلْق رأي عام مؤيّد لموقفه


أمّا بالنسبة إلى عدوان «السيوف الحديدية» المستمر منذ 25 يوماً، فإن الانطباع السائد، وفقاً لليشيم، هو أن «الجيش يُبعد المراسلين والصحافيين والمصوّرين عمّا يجري ميدانياً. وفقط الناطق باسمه، هو مَن يقوم بإلقاء البيانات يومياً، والمراسلون لا ينضمّون إلى القوات، فيما يكتفي رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، بالصور والمقاطع التي يَظهر فيها وهو يلقي خطابات تشجيعية أمام المقاتلين»، متسائلاً: «ما الذي تغيّر؟». وعن هذا، يجيب المعلّق والمحلّل العسكري، رون بن يشاي، في موقع «واينت»، بأن «الجيش يفضّل الحدّ من حضوره إعلامياً، والبقاء خلف الضباب، ليس فقط إزاء قيادة حماس التي على ما يبدو تجلس في مركز القطاع، وإنّما أيضاً أمام الإعلام الأجنبي، وذلك حتى يمنع حزب الله والإيرانيين، وحتى القطريين، من فهم ما يجري في الميدان، ليصعّب عليهم اتّخاذ القرارات، وهو ما تبدّى في قطع الاتصالات والإنترنت، بهدف إنتاج ضباب كثيف حول ما يجري».
لكن، بحسب ليشيم، فإن السبب الذي ذكره بن يشاي، «ليس مُقنعاً»، بدليل أن «كل معلومة تصدر من الميدان تخضع تلقائياً للرقابة العسكرية، وبالتالي لن يُكشف عملياً عمّا لا يرغب الجيش في كشفه أمام حماس أو غيرها». وفضلاً عن ذلك، فإن «كشف الوقائع الميدانية الخاضع للرقابة يمكن أن يُسهم في رفع الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي، ويخفّف كذلك من حالة اللايقين».
وبناءً على ما تقدّم، يستنتج ليشيم أن السبب الكامن وراء التعتيم الإعلامي الشديد «قد يكون مردّه إلى الصدمة التي وقعت إثر «مذبحة» السابع من تشرين الأول، وقادت إلى حقيقة مفادها أن الجيش بات بحاجة أقلّ إلى الشرعية الداخلية الممنوحة له، لأنّ ثمّة إجماعاً على أن الفظائع التي ارتُكبت ينبغي الرّد عليها بقسوة شديدة». ولكنّ السؤال الذي يَطرحه، هو: «ما الذي سيحدث إذا ما طالت العملية في غزة، والتي يمكن أن يتورّط فيها الجيش، لأن القتال سيجري داخل المدن وفي بيئة حضرية؟»، ليجيب: «بما أن الحكومة الحالية غير قادرة على توفير مظلّة دفاعية موثوقة، قد يتعيّن على الجيش الإسرائيلي تحمّل الأعباء في المجال الإعلامي الدعائي، وبالتالي، قد يحتاج إلى إنشاء علاقة أوثق بينه وبين وسائل الإعلام».