هذا الخيار يعني بقاء غالبية السكان في قطاع غزة. على أن يُفرض حكمٌ عسكري إسرائيلي في مرحلة أولى، ثمن تنصيب السلطة الفلسطينية بصفتها الجهة الحاكمة. وهذا يوجب القتال في منطقة كثيفة السكان، ويتطلب وقتاً طويلاً، كما يزيد من المخاطر على الجنود. وكلما استمر القتال الكثيف، يفاقم خطر فتح جبهة ثانية في الشمال. كما سيُعارض السكان سيطرة السلطة، نظراً إلى تجربتهم السابقة معها، وبالتالي فإن المسؤولية الإنسانية ستُفرض على إسرائيل.أما من ناحية الشرعية الدولية، فقد يبدو هذا الخيار أقلّ خطورة، وسيكون من الأسهل حصول دعمٍ كبير له. لكنّ بقاء السكان، مَا يمثّل الخيار الأسوأ، إذ يتوقّع سقوط الكثير من القتلى الفلسطينيين في العمليات. كما ستكون مدّة التنفيذ طويلة جداً، ومعها ستمتد الفترة الزمنية التي تُنشر فيها صور المدنيين المتضرّرين من القتال. وإذا ما فُرض الحكم العسكري، فمن الصعب على إسرائيل الاحتفاظ بدعمٍ دوليٍّ واسعٍ، وسيؤدي إلى ضغوط لتشكيل إدارة تابعة للسلطة الفلسطينية.
أمّا لجهة خلق تغيير أيديولوجي، فالمطلوب صوغ سردية عامة تستوعب فشل حركة «حماس»، واستبدال التصوّر القديم بأيديولوجيّة إسلاميّة معتدلة. وعملية تشبه عملية نزع النازية (De-Nazification) التي أُخضعت لها ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
كما أنّ إدخال السلطة إلى غزة سيجعل من الصعب فرض مناهج تعليمية تربّي الطلاب على الاعتقاد بشرعية إسرائيل، إذ إنّ المناهج التي تُدرّس الآن، تعلّم التلاميذ كراهية إسرائيل. ويجب التقدير بأن السلطة لن تعمل بثبات وحزم على صياغة سرديّة عامة لفهم الإخفاق والخطأ الأخلاقي الذي تمثّله حركة «حماس»، كما يجب التقدير بأنّ هذه السلطة لن تعمل على الترويج لفكرٍ إسلاميٍّ معتدل.
حتى الآن، تتمتّع «حماس» بتأييد شعبيّ واسع النطاق في الضفة الغربية. كما يُنظر إلى قيادة السلطة بصفتها عاجزة وفاسدة، وهي تتراجع أمام «حماس» على مستوى التأييد الشعبي. كما أنه يجب النظر من ناحية التداعيات الإستراتيجية، أنّ السلطة كيان آيلٌ إلى السقوط «كما لو كان يقف على أقدام تشبه أقدام الدجاج». وتعزيز السلطة من شأنه أن يمثّل خسارةً إستراتيجية لإسرائيل. ثم إنّ الانقسام القائم بين سكان الضفة وسكان غزة، هو أحد المعوّقات الرئيسية التي تعترض قيام دولة فلسطينية. ومن غير المعقول أن تصبح نتيجة هذه الحرب، انتصاراً غير مسبوق للحركة الوطنية الفلسطينية، وشقّ الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية.
سلطة رام الله كيان هش ينظر إليها الناس بصفتها عاجزة وفاسدة


هناك غموضٌ حيال مستقبل النموذج القائم حالياً في الضفة، حيث توجد إدارة عسكرية إسرائيلية، إلى جانب إدارة مدنية في يد السلطة. وكان يمكن تحمّل قيام هذا النموذج بفضل الاستيطان اليهودي واسع النطاق، بسبب عدم توافر إمكانيةٍ للسيطرة الإسرائيلية العسكرية من دون وجود الاستيطان اليهودي. مع ضرورة الإشارة إلى أنه لا يُتوقّع أن تلتزم الحركات الاستيطانية بالانضمام إلى مشروع العودة إلى قطاع غزة بعد إعادة السلطة الفلسطينية إليه.
التقدير يقول إنه لا توجد وسيلة للحفاظ على احتلال عسكري فعّال في غزة، إلّا على أساس وجود عسكريٍّ من دون استيطان، وبعد ذلك بوقتٍ قصير سترتفع الأصوات داخل إسرائيل وفي العالم، للمطالبة بالانسحاب. ما يعني أنّ الاحتلال العسكري مؤقت، ولن يحظى بشرعية دولية طويلة الأمد كما هو الحال في الضفة اليوم.
وفي غزة سيكون الوضع أسوأ. إذ سيتم النظر إلى إسرائيل بصفتها قوّة استعمارية لديها جيش احتلال. وستُهاجم القواعد والنقاط العسكرية، وستُنكر السلطة الفلسطينية أيّ دور لها في هذا الشأن. وقد تمت تجربة هذا الخيار وثبُت فشله. فعندما سلّمت السلطة القطاع، فازت «حماس» في الانتخابات، وعندها استولت بالقوة على القطاع. وبالتالي لا يوجد أيّ مبررٍ لبذل الجهد العسكري لاحتلال غزة، إذا ما عدنا في نهاية المطاف إلى ارتكاب الخطأ نفسه.
وفي ما خص مسألة الرّدع، فإنّ هذا الخيار لن يحقّق الردع المطلوب إزاء حزب الله، بل على العكس تماماً، فهو يؤشر إلى ضعف إسرائيلي في العمق، وهو ما سيشكّل تلميحاً لحزب الله، أنه لن يضطر إلى دفع ثمن باهظ لدى المواجهة مع إسرائيل، لأن إسرائيل ستتّخذ، على الأغلب، إجراءً مماثلاً لما جرى في لبنان في الماضي: سيطرة محدودة زمنياً على الأرض، يتبعها انسحاب.
وفي الخلاصة، إذا ما قاتل الجيش لاحتلال القطاع، وكانت النتيجة السياسية في نهاية المطاف حُكم السلطة، وتحويل القطاع، مجدداً، إلى كيانٍ معادٍ، فإنّ قدرة إسرائيل على تجنيد المقاتلين ستتضرّر بصورة جسيمة. إنّ خطوة كهذه ستمثّل إخفاقاً تاريخياً، وتهديداً وجودياً لمستقبل الدولة.