بعد صمت طويل، بدأت تتعالى الأصوات المعارِضة، داخل الإدارة الأميركية، لـ «نهج الانحياز التامّ» إلى إسرائيل في عدوانها على غزة. وعلى رغم تشديد أركانها، تكراراً، على أهميّة «توسيع دائرة النقاش، وإفساح المجال أمام تعدّدية الآراء بما يُحسّن من سياساتنا ومن أداء مؤسّساتنا بشكل أفضل»، وفق ما قال وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في رسالة وجّهها إلى الأطقم الدبلوماسية العاملة في وزارته، كثر الحديث عن مدلولات استقالة المدير السابق لمكتب الشؤون السياسية في الوزارة، جوش بول، قبل نحو أسبوعين.
وكان الرجل استفاض في شرح حيثيات قراره، في مقالة في صحيفة «واشنطن بوست»، اعترض فيها على «سابقة» عدم إخضاع شحنات الأسلحة المرسلة إلى جهة خارجية لأيّ نوع من النقاش أو المساءلة المتّصلة بتقدير مدى انسجامها مع «معايير القانون الدولي»، و»قيم حقوق الإنسان»، وذلك خلافاً للبروتوكولات المعمول بها في القسم المختصّ بعمليات نقل السلاح والمساعدات الأمنية للحكومات الأجنبية داخل وزارة الخارجية. وكشف بول عن ضغوط كبيرة مارسها كلّ من البيت الأبيض والكونغرس لتوريد الأسلحة سريعاً لحساب إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر، منتقداً الدعم العسكري والمالي من قِبَل بلاده لإسرائيل، كونه لم يؤدّ إلى إحلال «السلام».
«انتفاضة» داخل إدارة بايدن: الرئيس يتفرّد بالقرار!
تأسيساً على ذلك، تكشف مجلة «فورين بوليسي» عن تفرّد بايدن بالقرارات المتعلّقة بالتطوّرات في الأراضي المحتلّة، مشيرة إلى أنّ أيّاً من العاملين في وزارة الخارجية، ممّن حاولوا الإعراب عن مواقف معارضة أو مشكّكة في تلك السياسة، كانوا يواجَهون بإجابة واحدة: «تلك الأوامر، إنّما هي قرارات صادرة من أعلى، ولا مجال لمناقشتها على الإطلاق»، وفق ما قال بول نفسه للمجلّة. وفي تسريبات صحافية، أعرب بول عن اعتقاده بأن ما يشاع حول تغيير في سياسة البيت الأبيض بخصوص التصعيد الإسرائيلي ضد قطاع غزة، إنّما هو «تغيير في لهجة الخطاب، وليس في مضمونه»، مستعرضاً واقع سياسة الولايات المتحدة الداعمة لحلفائها في تل أبيب، بالمقارنة مع واقعها خلال الأزمة الأفغانية، بالقول: «في حالة أفغانستان، كان الجميع (في الوكالات الأميركية المختصّة) يدلون بدلوهم، ويعبّرون عن آرائهم بصورة طوعية، بخصوص (إمكانية) إرسال قوات لمساعدة حلفائنا الأفغان، من عدمها، بحيث كان هناك ما يمكن هؤلاء القيام به في تلك الحالة. أمّا اليوم (في حالة إسرائيل)، فيسود شعور بأنّه لا يمكن القيام بأيّ شيء على هذا الصعيد».
كذلك، تشير «فورين بوليسي» إلى وجود دبلوماسيين آخرين يؤيّدون وجهة نظر بول، من ضمنهم اثنان أعدّا بالفعل مسوّدة خطابات احتجاج، وهما في صدد رفعها إلى رؤسائهما، إضافةً إلى عدد آخر لا يكفّ في الكواليس عن تظهير توجّهات سياسية مخالفة للسياسة المعلنة لواشنطن، مستنتجةً أن «عاصفة من التباينات المتزايدة، تختمر في أوساط الدبلوماسيين الأميركيين، ذلك أنّ العديد منهم أعربوا في الكواليس عن غضبهم إزاء ما اعتبروه شيكاً على بياض، أعطته واشنطن لتل أبيب للقيام بعملية عسكرية واسعة على حساب المدنيين الفلسطينيين». وتضيف أن «الاعتراضات المتنامية لذلك النهج داخل وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، والهيئات الرسمية الأخرى، تتزامن مع تراجع حادّ في شعبية بايدن لدى تيار «الديموقراطيين التقدميين»، وكذلك في أوساط المسلمين والعرب من الأميركيين، لتلامس حدود الـ17%، مقارنة بنحو 59% في الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2020». وتنقل المجلة عن مسؤولين حاليين وسابقين في وزارة الخارجية، قولهم إن الحالة الاعتراضية المشار إليها باتت تشكّل «أحد أكبر التحدّيات التي واجهها أنتوني بلينكن على رأس وزارة الخارجية».
هذا الواقع، يتناوله أيضاً الباحث في «معهد كارنيغي لبحوث السلام الدولي»، والمسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية، ديفيد آرون ميلر، الذي سبق له العمل على ملفّ المفاوضات العربية - الإسرائيلية، إذ يقول: «لم أعهد أمراً مماثلاً على الإطلاق طيلة فترة عملي في الوزارة لمدة 25 عاماً... إن الإدارة الأميركية تتصرّف وكأنها تدير جهود الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقاً لحساباتها الخاصة». ويلفت مراقبون أميركيون آخرون، بدورهم، إلى أن الانقسامات في إدارة بايدن بلغت أوجها في الأسبوعين الأوليْن، حين سارع الرئيس الأميركي إلى إظهار دعمه المطلق لإسرائيل، متجاهلاً «النقاشات السياسية داخل الإدارة حول كيفية الاستجابة لأزمة خارجية كبرى، بما في ذلك البحث في جدوى نقل أسلحة جديدة وذخائر متنوعة، وفي الثمن المحتمل في صفوف المدنيين، وما قد يصاحبه من انتهاكات للقانون الدولي الإنساني من طرف الجهة الحليفة».

إدارة بايدن في وضعية الدفاع!
وفي محاولة لتدارك التبعات السلبية لهذه الموجة من «الانشقاقات الخافتة» عن البيت الأبيض، يتوجّه بلينكن في زيارة ثالثة إلى الأراضي المحتلّة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، بعدما كان أشار، قبل أيام، إلى حجم «التحدّيات» التي باتت تفرضها التطوّرات في القطاع، مع تكرار إشارته إلى الخطوط العريضة لسياسة بلاده حيالها، والتي يمكن تلخيصها بلازمة تأييد «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، مع ضرورة مراعاتها «احترام معايير وأحكام القانون الدولي الإنساني». وانطلاقاً ممّا أدلى به بلينكن، قبل أيام قليلة خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ، لجهة تأييده «هدنة إنسانية» في غزة، على وقع ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية من المدنيين، يلفت محلّلون غربيون إلى أن الإدارة الأميركية عدّلت نهجها خلال الأسبوع الماضي، من خلال دعوة إسرائيل، سراً وعلانية، إلى «القيام بالمزيد من الخطوات من أجل تخفيف المعاناة الإنسانية» في غزة، و»إفساح المجال أمام إدخال الإمدادات الإغاثية، إضافة إلى الماء والوقود»، وذلك في موازاة «عدم تزحزحها» عن خطط شحن أسلحة إضافية لحليفتها، ومعارضتها الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار.
ويَعتبر هؤلاء أن هذا التحوّل في سياسة بايدن، يمكن ردّه إلى مناشدات منظّمات حقوقية وجهات إقليمية، مستدركين بأنه من غير المعلوم إلى أيّ درجة يمكن الحركة الاعتراضية في صفوف الطاقم الدبلوماسي والأمني داخل الإدارة أن تسهم في تغيير نهج البيت الأبيض حيال غزة. وبحسب مصادر دبلوماسية أميركية، فإن «المزيد من الاعتراضات الداخلية على مستوى صنّاع القرار، خلال الأسابيع المقبلة، قد يتؤدّي إلى تغيير الحسابات» لدى بايدن، لناحية حثّه على مطالبة إسرائيل بتخفيف نهجها (التصعيدي) في القطاع المحاصَر. وتضيف المصادر نفسها، أن «حالة الغضب تلك، مهّدت الأرضية لنشوء تيار معارض لجوهر نهج بايدن حيال الحرب، في صفوف مسؤولي دوائر الأمن القومي، ما جعل إدارته تبدو في وضعية دفاعية أمام الداخل والخارج».
تكشف مجلة «فورين بوليسي» عن تفرّد بايدن بالقرارات المتعلّقة بسياسته إزاء التطوّرات في الأراضي المحتلّة


وما استرعى الانتباه أيضاً، هو الإطلالة الإعلامية لمستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، بعد تغيّبه عن الظهور العلني منذ بدء الحرب على غزة، وسط تكهنات سادت في وقت سابق بوجود توجّه لإقالته. هذه «العودة»، والتي اختار سوليفان أن تكون عبر مقابلة أجرتها معه صحيفة «لوموند» الفرنسية، جاءت في معرض الدفاع عن نهج إدارة بايدن تجاه الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وخلالها، سلّط سوليفان الضوء على ما قال إنها «تحدّيات الموازنة بين دعم حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والحاجة إلى معالجة المخاوف الإنسانية»، مقراً بـ»عزلة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط». وأشار المسؤول الأميركي إلى الجهود المبذولة لحشد الدعم الدولي والتواصل مع الدول العربية، مؤكداً أن بلاده «لا تعطي الضوء الأخضر الكامل للعمليات العسكرية الإسرائيلية، بل تقدّم النصيحة كصديق».
وعلى ما يبدو، فإن «الانشقاقات» لا تقتصر على الإدارة، بل باتت تنسحب على المؤسسة التشريعية المنقسمة بين مؤيّد ومعارض لـ»سياسة بايدن الإسرائيلية»، إذ أشار السناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، في مقابلة تلفزيونية، إلى أن «لا حدود أمام إسرائيل في مواصلة استهداف المدنيين» في قطاع غزة. ورداً على سؤال حول ما إذا كان هناك حد أقصى تراه الولايات المتحدة لعدد ضحايا القصف، أجاب غراهام: «بالطبع لا... هذا السؤال شبيه بلو أنّنا سُئلنا بعد الحرب العالمية الثانية: هل هناك حدود بينما كانت اليابان وألمانيا تغزوان العالم؟ هل يجب على إسرائيل أن تأخذ فترة راحة من القتال ضدّ الذين يحاولون إبادة اليهود؟ الجواب هو لا، لا حدّ لذلك».
في المقابل، يكشف سياسيون أميركيون عن انزعاجهم من مساندة بايدن للعمليات العسكرية الإسرائيلية، عوض حشد التأييد الدبلوماسي لتل أبيب، ومطالبتها بشنّ غارات أكثر دقّة، ومحصورة بالأهداف المتّصلة باستئصال حركة «حماس» وقياداتها. ومن هذا المنطلق، يشدّد عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، عن الحزب الديموقراطي، كريس مورفي، وأحد أبرز وجوه «الجناح التقدّمي» في الحزب، على أن «تحديد كيفية توفير الدعم لإسرائيل، من جهة، وتحديد كيفية الموازنة بين محاسبة حماس، وتفادي إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة، من جهة أخرى، يندرجان ضمن القرارات البالغة الصعوبة»، جازماً بحتميّة «وقوع انقسامات داخل البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، وكذلك الكونغرس، وذلك بصرف النظر عمّا يقرّره الرئيس بايدن للإجابة على تلك الأسئلة».
وفي خضمّ هذا الواقع المأزوم بالنسبة إلى بايدن، ببعدَيه الداخلي والخارجي، حذّر مدير مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي، كريس راي، من أنّ «التهديد الإرهابي ارتفع طوال عام 2023»، كاشفاً أن «الحرب المستمرة في الشرق الأوسط رفعت التهديد بشنّ هجوم ضدّ الأميركيين في الولايات المتحدة إلى مستوى آخر تماماً». ورأى أن ما وصفه بـ «هجمات حماس الإرهابية على إسرائيل»، يمكن أن يحفّز تهديدات مماثلة لتلك التي شكّلها «تنظيم داعش» في السنوات الماضية داخل الولايات المتحدة، مستدركاً بالقول: «لا توجد مؤشرات على نية حماس شنّ هجمات إرهابية داخل الولايات المتحدة، كونها لا تمتلك القدرة على القيام بذلك حالياً».