الخليج يغلي تحت كراسي حكّامه. وهذا أكثر ما تخشاه الولايات المتحدة التي قد تجد نفسها منبوذة شعبياً في المنطقة، بعدما تعيّشت طوال العقود الماضية على صيتها كحامٍ لحدود تلك الدول - وتحرير الكويت ليس ببعيد -، وكذلك كحارسة لأنظمة الرفاه الاجتماعي التي يتمتّع بها مواطنوها مقابل ولائهم لأنظمة الحكم، وولاء الأخيرة لواشنطن. وإذ مثّلت الحال المتقدّمة، بالنسبة إلى هؤلاء المواطنين، نوعاً من التوازن، الذي تعجبهم فيه جوانب، ولا تعجبهم أخرى، فإنه عندما يسقط عشرة آلاف فلسطيني شهداء في ثلاثة أسابيع، غالبيتهم من النساء والأطفال، يصبح الأمر مختلفاً. القصف الوحشي الذي تقوم به قوات الاحتلال لقطاع غزة، يعيد إلى السطح المشاعر المعادية لإسرائيل لدى الخليجيين، ليس من باب التعاطف فقط، وإنّما من باب الخوف على النفس أيضاً. فلا بدّ لأيّ مواطن سويّ في أيّ من دول الخليج أن يسأل نفسه: أهذه هي إسرائيل التي تريدون لنا أن نطبّع العلاقات معها؟ وكيف لنا أن نطمئنّ على أولادنا وأرزاقنا وأرضنا وهويّتنا ورفاهنا وأمننا وأماننا، إذا ما سلّمنا رقابنا لهذا العدو الذي لا يقبل الآخر، حتى مستسلماً، بل لا يقبله إلّا قتيلاً؟من هنا، يبدو أن ثمّة تراجعاً رسمياً خليجياً متدرّجاً صار ملحوظاً، يَظهر مدفوعاً بعاملَين: الأوّل هو صمود المقاومة الفلسطينية وتمكّنها من إيقاع خسائر كبيرة في صفوف قوات العدو، التي لا تستطيع، رغم القصف الجوي والهجوم البرّي بمئات الدبابات، الإعلان عن تحقيق أيّ هدف؛ والثاني هو حفلة الإبادة التي تنفّذها إسرائيل أمام الشاشات، والتي لا تثير السخط في الخليج وحده، وإنّما في العالم كلّه. السعودية واكبت أولى المجازر الإسرائيلية بأغاني إليسا، بعدما بشّر تركي آل الشيخ السعوديين بأن «قطار موسم الرياض ماشي وسريع». لكنها تجد نفسها الآن مضطرّة، وهي متأخّرة طبعاً، إلى إطلاق حملة «ساهم» للتبرّع لفلسطين، والتي افتتحها الملك سلمان، ووليّ العهد، محمد بن سلمان، بالتبرّع بـ50 مليون ريال. ومع ذلك، لم تقرّ السعودية، كدولة، أيّ دعم لفلسطين، ما يعني أن التراجع هو بقدر الشعور بالحرج، ولم يصبح كاملاً بعد، فيما لا يزال الرهان على إسرائيل قائماً، مع التذكير، هنا، بأن الدولة السعودية، على سبيل المثال، أقرّت مساعدة بمئات ملايين الدولارات لأوكرانيا إرضاءً للولايات المتحدة. ولو كان العدو «أبلى بلاءً حسناً» في الميدان، لما سُمح لأحد في المملكة بالتبرّع بفلس أحمر لغزة، ولاستدعى آل الشيخ المزيد من المنشّزين للغناء على صور جثث أطفال القطاع.
الأمر نفسه ينطبق على الإمارات، التي كان رهانها على إسرائيل الأكثر علنية ووقاحة. فبعد أن امتنعت الدولة عن تقديم أيّ عون للفلسطينيين طوال الأسابيع الماضية من الحرب، وصمتت صمت القبور على المذابح الإسرائيلية، وجّه رئيسها، محمد بن زايد، باستضافة ألف طفل فلسطيني من قطاع غزة برفقة عائلاتهم، لتقديم جميع أنواع الرعاية الطبية والصحية التي يحتاجون إليها في مستشفيات الدولة، إلى حين تَماثلهم للشفاء وعودتهم. لا يمثّل ذلك لفتة إنسانية، وإنّما هو تراجع تحوّطي لاحتمال هزيمة إسرائيل ومعها الولايات المتحدة في الحرب. فانتصار المقاومة، حتى لو جاء نسبياً، سيكون له وقع ثقيل على نظام عيال زايد وغيره من أنظمة الخليج، إذ سوف تَظهر لمواطني تلك الدول، خيبة الرهان الأمني على تل أبيب، والذي ذهبت فيه أبو ظبي حتى النهاية.
سيكون التفاعل الخليجي مع أحداث غزة، واحداً من عوامل الضغط التي تتزايد على الولايات المتحدة


وكذلك الأمر في البحرين، التي كانت تضاهي الإمارات في التطبيع المكشوف والرهان الأمني على العدو. ففي هذا البلد الذي يقف شعبه على طرف نقيض من النظام، قبل حرب غزة بكثير، ولأسباب داخلية، لم يعُد الحكم فيه يتحمّل الظهور بمظهر من يضع كلّ رهاناته على إسرائيل والولايات المتحدة، حتى إذا لم يكن له خيار آخر. ومن هنا، يُفهم العمل على إخفاء الرهان المُشار إليه عن الأعين، بالنظر إلى أنه حتى قاعدة النظام الشعبية في الداخل، ليست في وارد التمسّك به كونه يبدو انتحارياً أكثر فأكثر. ولذا، جاء قرار استدعاء السفير البحريني من إسرائيل.
في المقابل، تمثّل الكويت المختبر الذي يتفاعل فيه العداء لإسرائيل بشكل مفتوح إلى حدّ كبير، بفعل المساحة السياسية المتاحة للمواطنين، والتي تسمح لهم إيصال ممثّليهم الحقيقيين إلى مجلس الأمة. الآن، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة؛ ولذا، فإن الحكم في الكويت كان الأول خليجياً في نجدة الفلسطينيين، عبر إرسال المساعدات واتّخاذ إجراءات أخرى. وعلى العكس من الدول الخليجية الخمس المتبقّية التي يضمّها «مجلس التعاون»، من غير المُتصوّر أن تقيم الكويت أيّ نوع من العلاقات مع العدو، ولو بشكل غير رسمي. ومع ذلك، ثمّة كوابح تمنع المستوى الرسمي في هذا البلد، من الذهاب بعيداً في الاتجاه الآخر، من بينها أن الكويت جزء من الأمن الخليجي الذي يضمّ دولاً إما مطبّعة مع العدو بالكامل، وإمّا تقيم علاقات غير رسمية معه، من مثل قطر وسلطنة عُمان. ثمّ إن الكويت تستضيف عدداً كبيراً من الجنود الأميركيين المتواجدين في قواعد فيها منذ تحريرها من احتلال صدام عام 1991. ولعلّ هذه المسؤولية عن الازدواجية في الكويت ما بين الشعور بالتضامن مع فلسطين، وما بين التغاضي عن الوجود العسكري الأميركي أو القبول به، يتحمّلها صدام وحده. لكن صدّام مات، وأميركا ليست جمعية خيرية، وهي لم تقاتل في الكويت لإعادة أبناء الجهراء إلى ديارهم، وإنّما من أجل مصالحها فقط. والآن، ما دام الشعب الكويتي حرّاً في خياره، فإنه لن يقف إلّا مع فلسطين في المعركة الدائرة حالياً. وعلى الرغم مما تَقدّم، سيظلّ يَخرج أفراد في الكويت مرتبطون بأنظمة خليجية أخرى، مِن مِثل فجر السعيد التي علّقت على تغريدة للجاسوس الإسرائيلي على مواقع التواصل إيدي كوهين، عندما وضع صورة ليد السيد حسن نصر الله مع تعليق «إن تجرّأتَ ستندم»، بالقول: «خلّوه يندم، سيكون بالنسبة إلينا معروفاً لن ننساه لكم يا أولاد العم. أخدمونا مرّة بعمركم». لكن بعد تلك الواقعة، حوّل الكويتيون السعيد إلى «ممسحة» للأرجل على وسائل التواصل، حيث حلّق تراند «بنت حرام» في أكثر من دولة عربية.
سيكون التفاعل الخليجي مع أحداث غزة، سواءً أخذ شكل التعبير الصريح حيث يُتاح ذلك، أو تفلّت بقدر حيث يُوجد تضييق شديد على التعبير، واحداً من عوامل الضغط التي تتزايد على الولايات المتحدة، لوضع حدّ لهذه الحرب المجنونة، قبل أن تهدم معها الكثير من المصالح الأميركية هناك.