غزة | في خيمة استقبال الشهداء قبالة قسم الاستقبال والطوارئ في «مستشفى الشفاء» غربي مدينة غزة، تصطفّ جثامين المئات من الأطفال الذين يأخذون طريقهم سريعاً إلى مقبرة المدينة. المحظوظ من بين الأهالي الجالسين قبالة جثامين أبنائهم، هو من تركت له القنابل الإسرائيلية شيئاً من وجه طفله ليطبع على جبينه قبلة الوداع الأخيرة. أمّا صاحب الحظّ العاثر، فهو من قدّم له المسعفون قطعةً من القماش، وأخبروه إنها ما تبقّى من جثامين أطفاله الخمسة. الزميل نضال حميدة فُجع أثناء أدائه لعمله الصحافي، بوصول جثامين زوجته وأبنائه الثلاثة إلى خيمة الشهداء في «مستشفى الشفاء». هنا، غطّت الأكفان أوجه الجميع، ومحت أيّ فرصة لقبلة أخيرة، بعدما أطبق البيت على أجسادهم ولم يُبقِ من ملامحهم ما يمكن التعرّف إليه. في باحة «الشفاء»، كان نضال يحمل أبناءه واحداً تلو الآخر، ويمضي بهم إلى عربة «تكتوك» جلبها كي ينتقل بهم بنفسه إلى المقبرة. قال في أثناء ذلك في ما يشبه الهذيان: «راحوا كلهم، تركتهم حتى جيب إلهم خبز وماء، ورجعت لقيت البيت في منطقة اليرموك... لأ كل المنطقة مدمرة، أولادي الأربعة وزوجتي، ما ظل حدا يابا والله ما ضل حدا عايش».هم هكذا أهالي غزة، مزعجون دائماً، يثيرون الفوضى في الأرض، كما في السماء، حتى باتت الطريق إلى الجنة مزدحمة بأطفالهم. تلك الحقيقة تُظهرها آخر الإحصائيات التي نشرها المكتب الإعلامي الحكومي، والتي تبيّن أن 70% من الشهداء هم من النساء والأطفال، وأن أكثر من 1006 مجزرة عائلية شُطبت فيها عائلات كاملة من السجل المدني. في الساعات الأخيرة من يوم السبت الماضي فقط، ارتكب الاحتلال 10 مجازر كبرى، راح ضحيتها 231 شهيداً، فيما يشير النسق الذي تتمّ فيه عمليات القصف للمنازل المأهولة، إلى أن إسرائيل تتقصّد إيقاع أكبر عدد من الضحايا: «هي رغبة مفترسة في الانتقام... لا أهداف أخرى من قصف منزل عائلتي الذي كان يؤوي 70 نازحاً من الأقارب والأصدقاء الذين تقطّعت بهم السبل»، يقول الشاب محمد حميد الذي فقد 50 فرداً من أسرته في لحظة واحدة، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار»: «نترك بيوتنا الضيقة في ساعات الليل، وينام الرجال في الشوارع كي تأخذ النسوة راحتهن. في تمام الساعة السادسة صباحاً، قصفوا المنزل بمن فيه، نجا جميع الرجال، ورحلت النساء والأطفال جميعهم، الرجال أيتام أطفالهم وزوجاتهم وليس العكس».
لا معدّات كافية للتعامل مع حجم الركام المهول، ولا وقود أصلاً لتشغيل الجرافات والبواقر


من جهته، قرّر عاصم أخيراً ترك المنزل والذهاب إلى مركز الإيواء في «مدرسة أسامة بن زيد» في منطقة الصفطاوي شمال غزة، متجاهلاً نصيحة صديقه أحمد بأن «لا يذهب، لا خطوط حمراء لديهم، سيقصفون كلّ شيء، لكن البيت يبقى أكثر أماناً من نقاط التجمع الكبرى (...) كنت على خطأ، لقد قصفوا المدرسة وقصفوا بيتنا أيضاً، رحل هو وعائلته، واستشهد 16 فرداً من أبناء أسرتي في قصف منزلنا، وبقيت أنا وحيداً»، كما يقول أحمد. هكذا، يدفع الجميع فاتورة الدم، لتصبح أبواب السماء شديدة الازدحام على مدار الساعة. 3900 طفل و2509 نساء قضوا منذ بداية الحرب، فيما تحوّلت المنازل المدمّرة إلى مقابر أيضاً، إذ لم تتمكّن الطواقم المتخصصة من انتشال جثامين نحو 1250 طفلاً من تحت الأنقاض، فلا معدّات كافية للتعامل مع حجم الركام المهول، ولا وقود أصلاً لتشغيل الجرافات والبواقر، بينما يختصر رجال الدفاع المدني الوقت والعناء، ويُخرجون من تصل إليهم أيديهم من الشهداء والجرحى، ويتركون من أطبق عليهم الركام لمحاولات الأهالي. صار طبيعياً، والحال هذه، أن تسمع أن خلف هذا البناء المدمّر جثامين لعشرين شهيداً لم تصل إليهم يد أحد.
على مواقع التواصل الاجتماعي، ينشر الأهالي صور أبنائهم الأطفال، مذيّلةً بأرقام تواصل، لعلّ أحداً شاهدهم أحياء أو شهداء. الطفل فؤاد عبد الله أبو القمصان ظَهر في الصورة التي نشرها أقرباؤه أنيقاً، بابتسامة وثياب تدلّ على كدّ والديه لتنشئته على أجمل ما يكون. رحلت أسرته في مجزرة شارع اليفاوية الكبرى في معسكر جباليا، ووجدت جثامين أفرادها لاحقاً، فيما بقي هو مفقوداً، ولا أحد يعلم مصيره حتى اللحظة. هل غيّر العصف المهول ملامحه الجميلة وتعذّر العثور عليه وسط آلاف المصابين والشهداء المجهولي العائلة والهوية، أم أذابت حمم النار جسده النحيل وأفقدته معالمه كلّها؟