فلسطين، تاريخها وماضيها وحاضرها وواقعها ونهبها ونفيها، تصل إلينا على شكل موجات صدمية. بسبب هذه الطبيعة المتجزّئة لوجودها، هناك حاجة دائمة لإعطاء هذا الواقع غير العادل، جزءاً صغيراً من التلاحم. لذلك، تحاول السينما الفلسطينية، منذ نشأتها، جعل ما تم ويتم إخفاؤه مرئياً، وربط الماضي المضطرب بالحاضر غير العادل والواقع غير الإنساني. ينبغي لنا جميعاً النظر إلى السينما والسردية والقصة والرواية والصورة والكلمة الفلسطينية وفهمها في سياق تاريخ من النفي والتشتّت. أفلام فلسطين مشتّتة كشعبها، تأتي من أماكن مختلفة تمثّل الهوية الجماعية، وتواجه أزمات مستمرّة تهدّد وجودها. السينما الفلسطينية عابرة للحدود، أنشأت ذاكرة ومساحة تمثل الأماكن التي كانت موجودة، وتلك التي في طور الاختفاء.هذا التشتت والنفي، وفلسطين العابرة للحدود، رسّخها المخرج الفرنسي جان لوك غودار (1930 ـــ 2022) في فيلمه «موسيقانا» (2004). «موسيقانا» عمل بدوي، لأنه لا يوجد شيء في هذا الفيلم في مكانه. الهنود الحمر ليسوا في المنزل، خوان غويتيسولو ليس في كاتالونيا، محمود درويش ليس في فلسطين، سراييفو ليست في مكانها، حتى الكلمات التي نسمعها هي مجرّد صدى. كي تكون في قلب الواقع، يجب أن تكون بعيداً عنه. يمكننا سماع ما يحدث في مكان ما بشكل أفضل عند نقله. بنى غودار فيلمه على شكل «الكوميديا الإلهية» لدانتي، في ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، الفردوس. وفقاً لقواعد جدلية: اللقطة/ اللقطة العكسية. استخدم «موسيقانا» هذا التدفّق البصري للوعي للتشكيك في مفاهيم المسؤولية والذنب، والأشخاص الذي يقولون «هذه موسيقانا» يقولون نحن هنا، نحن الأشخاص الموجودون على الحدود، أولئك اللاجئون، قسراً أو أحياناً طوعاً. وهنا مرة أخرى، فلسطين في خضم هذا العابر للحدود وهذا التشتت.
يظهر غودار صورة لليهود الواصلين إلى فلسطين عام 1948، وصورة لفلسطينيين تم إلقاؤهم في البحر، معلّقاً «اليهود انضموا إلى الخيال، والفلسطينيون إلى الوثائقي»


في مشهد من الفيلم، وفي سؤال حول الفرق بين الفيلم الوثائقي والخيالي، يُظهر لنا غودار صورة لليهود الذين وصلوا عبر البحر إلى فلسطين عام 1948، وصورة لفلسطينيين تم إلقاؤهم في البحر في التاريخ نفسه على قاعدة اللقطة/ اللقطة العكسية وعلّق غودار: «اليهود انضموا إلى الخيال، والفلسطينيون انضموا إلى الوثائقي». هذه العبارة، يستعملها غودار منذ فترات طويلة. هو نفسه كتب مرة في مجلة «دفاتر السينما» عن فيلم «Moi, un Noir» (1985) لجان روش قائلاً: «إنه فيلم وثائقي عظيم جداً، لأنه فيلم خيالي عظيم جداً». وفي «موسيقانا»، ردّد جملته الشهيرة عن اليهود والفلسطينيين في البحر.

لقد استغرق الأمر منّي أقل من أسبوع حتى أفقد الحياد وربما أرمي الحجارة على الدبابات (دانيال داي لويس)

واستناداً إلى تاريخ الصهيونية، فإنّ هذه الجملة دقيقة جداً لأنّ اليهود وصلوا إلى أرض خيالهم. وهذا يتوافق أيضاً مع جملة قالها الياس إحدى الشخصيات في الفيلم: «عندما يحلم الإسرائيلي في الليل، فهو لا يحلم بإسرائيل، بل بفلسطين. أما عندما يحلم الفلسطيني ليلاً، فهو يحلم بفلسطين، وليس بإسرائيل على الإطلاق». وهذه الجملة هي في الواقع جزء من محادثة أجراها الياس مع شخص إسرائيلي. من دون جدال، حاول أن يشرح له أنّ ميزان القوى ربما لم يكن كما تصوّره الصهاينة، لأن هناك شيئاً لم يكن الإسرائيليون على علم به على الإطلاق: «عندما تنام، نحن نحتلّ جماجمكم، أنتم تعملون على الأرض في النهار، نحن نحتل رؤوسكم في الليل». هذه ليست مزحة، هذا هو جوهر الصراع بين الخيال والوثائقي وجوهر الخوف لدى الإسرائيليين. كلما زاد عدد الترسانات الذرية والفرق المدرعة والطائرات التي يملكونها، كلما زاد ضعفهم، وهذا ما نشهده تماماً اليوم في غزة. من هذا الكلام والصورة التي كتبت التاريخ، تنشأ المعاني، الصورة الملونة لليهود على الأراضي المحتلة، تتناقض مع صورة الفلسطينيين بالأبيض والأسود في التاريخ نفسه. لذلك يحتوي الواقع على نسختين حقيقتين: إسرائيل تصوّر دولتها الجديدة، وفلسطين توثّق خسارتها. وفي هذا الصدد، يمكن أن نوضح أيضاً ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش في الفيلم عن المهزومين. هو لا يعتذر عن الهزيمة، بل يعتذر عن الخسارة، وهذا ليس الشيء نفسه على الإطلاق. ولمدة عشرين عاماً وأكثر، ظل هذا الموضوع راسخاً في قصائده. بطريقة ما درويش في الفيلم يصف الفلسطينيين على أنّهم أحصنة طروادة، وهذا ليس على الإطلاق للترويج لكونهم ضحايا، بل ترك وضع الضحية لمن يريد أن يأخذها.
هذا الفرق بين الخيال والوثائقي، وعلى وجه التحديد التشتت السينمائي الفلسطيني، يدعونا بسبب ما يحدث في عزة، إلى لمّ الشمل، والبحث عن كل صورة وكل مشهد وكل فيلم وكل قصيدة وكل مقال ورواية، وعدم عزلها أبداً أو اعتبارها وثيقةً لماضٍ منتهٍ أو
ميت.



كين لوتش: كيان قام على التطهير العرقي
أصدر أب السينما الأوروبية النضالية البريطاني كين لوتش فيلمه الأخير The Old Oak (2023) الذي يدور حول اللاجئين السوريين الذين يجدون أنفسهم في مجتمع الطبقة العاملة الإنكليزية. ومع كل فيلم جديد للوتش، تعود الصرخات والاتهامات له بمعاداة السامية. ما زلنا نتذكر كيف طُرد لوتش من حزب العمال عام 2021 بسبب الاتهامات بمعاداة السامية. وبما أن لوتش مدافع شرس عن القضية الفلسطينية، لم يكن طرده من حزب العمال هو البداية، بل قبلها بسنوات، وتحديداً عام 2017، قدم محرر الرأي الصهيوني في صحيفة «غارديان»، جوناثان فريدلاند، وهوارد جاكوبسون في صحيفة «نيويورك تايمز» مزاعم لا أساس لها من الصحة حول معاداة لوتش المفترضة للسامية. وفي مؤشر إلى التلاعب الإعلامي الأحادي الجانب، رُفض طلب لوتش بمساحة لحق الرد، ما أجبره على تقديم رده على موقع «الصوت اليهودي من أجل العمل» المناهض للعنصرية.


منذ ذلك الوقت، لا يزال صوت لوتش يعلو مناصراً القضية الفلسطينية. أوضح مراراً كيف أنّ اتخاذ موقف تضامني مع الشعب الفلسطيني أصبح أصعب. «لقد أصبح الأمر أكثر صعوبة، وأعتقد أن المشكلة تكمن في أن حكوماتنا مجتمعة –الولايات المتحدة وبريطانيا ومختلف أنحاء أوروبا- تواطأت في قمع الفلسطينيين عبر عقد صفقات مع إسرائيل. الصفقات التجارية، بطبيعة الحال، هي القضية الأكبر. الشؤون الثقافية والرياضية كذلك. إسرائيل تلعب حتى في مسابقات كرة القدم الأوروبية! هذا غريب. مصر لا، لبنان والجزائر والمغرب لا. إسرائيل موجودة في الشرق الأوسط. ماذا تفعل في مسابقة كرة القدم الأوروبية؟ لماذا إسرائيل هناك؟ نحن نعرف الجواب: إنه جزء من هجوم ثقافي لنقول إن إسرائيل هي في الواقع ديموقراطية غربية».
بالنسبة إلى لوتش الطريقة الأهم لمناصرة القضية الفلسطينية هي قول الحقيقة: «عليك فقط أن تقول الحقيقة. فقط قل الحقيقة. صديقي الذي أكنّ له احتراماً كبيراً هو المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه يصف بالتفصيل الدقيق، وبدقة أكاديمية كبيرة، مسألة إبعاد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم ويسمّيها التطهير العرقي لفلسطين. هذا حدث تاريخي. عندما تنظر إلى الأدلة، فلا يمكن الطعن فيها. علينا أن نؤكد هذه الحقيقة: إسرائيل قامت على التطهير العرقي. نحن بحاجة إلى المطالبة بسيادة القانون الدولي، واتفاقيات جنيف. فقط قل الحقيقة. وفي النهاية، سيدرك الناس أن دعم الفلسطينيين هو دعم للعدالة وحقوق الإنسان. علينا أن ننظم أنفسنا، ونطالب الناس بدعم ذلك، وعلينا أن نقول لهم، بعدما أصبحت لديهم الحقائق، كيف لا يستطيعون دعم الفلسطينيين؟»


دانيال داي لويس موثّقاً زيارته إلى غزّة
في عام 2005 قام الممثل الإنكليزي المتقاعد دانيال داي لويس بتوثيق زيارته إلى قطاع غزة، في خمس صفحات سرد فيها كل شيء رآه في الرحلة التي غيرت نظرته إلى الصراع إلى الأبد. في كلماته، سرد الفظائع التي ارتكبتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي تجاه السكان الفلسطينيين، واصفاً حالته النفسية والعقلية قائلاً: «هذه حالة تمييز عنصري، لقد استغرق الأمر منّي أقل من أسبوع حتى أفقد الحياد.


وبسبب ذلك، ربما أرمي الحجارة على الدبابات». شرح كيف أن الوضع المتدهور في قطاع غزة أصبح مدمراً بسبب الهجمات المستمرة التي يشنها الجيش الإسرائيلي. «الجيش الإسرائيلي يرد على رشق الحجارة في قطاع غزة بإطلاق النار. وعندما ينفذ المسلحون الفلسطينيون تفجيرات وهجمات، فإنهم يردون على ذلك بتدمير المنازل وحقول الزيتون للعثور على الجناة، وإدانة عائلاتهم، وإنشاء مناطق عازلة لحماية المستوطنات الإسرائيلية». ويصف بالتفصيل الرعب الذي يعانيه الفلسطينيون «ويمكن للدبابات والجرافات المدرعة الإسرائيلية أن تأتي من دون سابق إنذار، وغالباً في الليل. الضجيج وحده يكفي لتجميد الروح».
ويذكر لويس أيضاً في كتاباته كيف هُدم العديد من المنازل، ومُحي العديد من الأراضي المزروعة وبساتين الفاكهة والحدائق والحقول، وتحولت البلاد إلى أرض قاحلة من الخراب والكوارث. وينهي كلماته في حادثة شاهدها بعينه «في يومنا الثالث، وبينما كنا نقف على حافة مخيم اللاجئين في رفح، المنطقة الحدودية بين غزة ومصر، اخترقت الرصاصات الرمال على بعد متر ونصف متر من المكان الذي كنا نقف فيه. لقد كان الرصاص في كل مكان. إيمان الحمص، وهي تلميذة لا حول لها ولا قوة تبلغ 13 عاماً، أصيبت بالرصاص قبل أسابيع عدة. ركضت وحاولت الاختباء من الرصاص والموت الذي جاء ليأخذها. يومها عندما سمعت الرصاص حولنا، شعرت بوجود إيمان، والسماء اهتزت بأنفاسها المرفرفة».