يواجه الرئيس الأميركي، جو بايدن، مأزقاً مزدوجاً، على المستويَين الشعبي والحزبي، منذ بدء الحرب على غزة، بدأت تنسلّ خيوطه أخيراً إلى داخل إدارته، على نحوٍ بات ينعكس سلباً على صورته كرئيس في نظر الأميركيين، وكقائد من منظور «الديموقراطيين»، ويهدّد فرص فوزه بولاية رئاسية جديدة. وفي ظلّ ترجيحات بأن يتمخّض المشهد التمهيدي الانتخابي عن تكرار «نِزال» عام 2020 بين بايدن وسلفه دونالد ترامب، في استحقاق 2024، لا يبدو واقع الرجلَين على أحسن ما يرام، علماً أن كليهما عانا من اهتزاز «صورتهما»، بسبب هذه الحرب.
بايدن وترامب وغزّة بينهما
فيما يبدو الرئيس السابق في صدد الظفر ببطاقة ترشيح الجمهوريين، وفق ما يُظهره أحدث استطلاعات الرأي، بنيْله نحو 59.6% من أصوات القاعدة الناخبة للحزب، في ظلّ ضعف أداء منافسيه، وأقربهم إليه، حاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس، الذي بالكاد حصد 13%، يحافظ الرئيس الحالي على أصوات القاعدة الناخبة لحزبه (69%). ومع ذلك، لا تبدو الطريق أمام كلّ منهما بلا عوائق، وفي مقدّمها ما يتّصل بما يواجهه ترامب من قضايا أمام المحاكم الأميركية، بدءاً بقضيّة محاولته شراء سكوت ممثّلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانييلز، عن علاقة جمعتهما في ما مضى، ومن ثمّ ما يطاول نجلَيْه، دونالد جونيور، وإريك، بصفتيْهما نائبَي رئيس «منظّمة ترامب»، التي تضمّ شبكة واسعة من الشركات التي تُعنى بالتطوير العقاري، والفنادق الفاخرة، وملاعب الغولف، وصولاً إلى ما يطاول ابنته، إيفانكا، التي جرى استدعاؤها للإدلاء بإفادتها شاهدة في إحدى قضايا الاحتيال التي تلاحق والدها وشركاته أمام مكتب الادّعاء العام في نيويورك، والتي تُقدّر غرامتها بنحو 250 مليون دولار. ولعلّ هاجس ترامب الرئيس، يكمن في دعاوى قضائية (فدرالية) رُفعت ضدّه في بعض الولايات، كميشيغان وكولورادو ونيو هامبشير وأريزونا ومينيسوتا، بتهم مخالفته التعديل الدستوري الـ14 - إبّان واقعة «اقتحام الكونغرس» -، والذي ينصّ على أنه لا يمكن أيّ شخص «شارك في التمرّد أو تمرّدَ» بعدما أقسم اليمين لدعم الدستور والدفاع عنه، أن يشغل منصباً رسمياً مجدّداً. وبالقدْر نفسه، يهجس الرئيس السابق بملاحقته في قضايا ذات طابع سياسي وأمني حساس، كقضيّة احتفاظه بوثائق سرية في منزله الكائن في منتجع مارآلاغو في فلوريدا، واتهامه بمحاولة قلْب نتائج الانتخابات الرئاسية، ولا سيما أنّ محاكمته في القضية المذكورة تسبق ما يُعرف بـ»الثلاثاء الكبير»، الذي ستُجرى فيه الانتخابات في 15 ولاية وإقليم واحد، وهو اليوم الذي ستُحسم فيه إلى حدّ كبير هوية المرشّح الرئاسي للجمهوريين.
في المقابل، تنبع مصادر قلق بايدن على «مصيره الرئاسي» بصورة جوهرية من الانقسامات الحزبية المتفاقمة في أوساط «الديموقراطيين» حيال مجريات الحرب في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وما تخلّفه من أصداء داخل إدارته، وفي الشارع الأميركي، وكذلك، وإنْ بصورة ثانوية، من تبعات توجّه مجلس النواب الأميركي لإطلاق إجراءات لعزله من منصبه على خلفية قضايا لاحقت نجله هانتر. ومع تفجّر الأوضاع في غزة، احتلّ العدوان الإسرائيلي هناك حيّزاً غير مسبوق في «الرئاسيات»، وخلافاً لِما جرت عليه العادة من عدم تركيز الشارع الأميركي اهتماماته على قضايا السياسة الخارجية، إذ استحالت مواقف ترامب في هذا الخصوص، ولا سيما انتقادات سبق أن وجّهها إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على خلفية أحداث السابع من تشرين الأول، إلى جانب وصفه «حزب الله» اللبناني بـ»الذكي» على المستوى الاستخباري، في معرض تمايزه عن موقف البيت الأبيض، «وابلاً انتخابياً» عليه، جعلته ينكفئ عن الإدلاء بتصريحات حول السياسة الخارجية، ويحصر صراعه مع غريمه حول عناوين محلية، فيما لا تزال مواقف بايدن وإدارته المتساهلة مع الاعتداءات الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين تؤثّر سلباً على شعبيته، سواء في أوساط ناخبيه من المحازبين، أو في أوساط مرؤوسيه في الإدارة «الديموقراطية».
تُظهر استطلاعات الرأي تقدُّم ترامب على بايدن في خمس من ست ولايات رئيسة «متأرجحة»


بايدن «الصهيوني» في مرمى سهام انتقادات مرؤوسيه ومحازبيه
وفي خضمّ هذا السجال الانتخابي المحتدِم، المتّسم بـ»المزايدة» في إظهار الدعم لإسرائيل، ينطلق البعض من تصريحات أدلى بها بايدن، الكاثوليكي، أخيراً، حين قال إنّه «لا يتعيّن على المرء أن يكون يهودياً لكي يكون صهيونياً»، قبل أن يؤكد بكل وضوح: «أنا صهيوني»، للإشارة إلى ماضيه العائلي والسياسي المؤيّد للصهيونية، والذي يعود إلى طفولته وقناعات ورثها عن والده في شأن «عدالة إقامة دولة إسرائيل كوطن قومي لليهود عام 1948». ومن منظور هؤلاء، فإن تلك القناعات، وخصوصاً ما تجلّى منها إبّان التصعيد في غزة، باتت تَطرح إشكالية أمام المستقبل السياسي للرَّجل في لحظة تشهد فيها الولايات المتحدة تغيّراً في مقاربة الرأي العام للعلاقة مع تل أبيب، علماً أن الرجل لطالما وُصف بأنه «أحد أصدقاء إسرائيل» الرئيسيين على مدى خمسة عقود قضى معظمها عضواً في مجلس الشيوخ، وكان خلالها أكبر متلقٍّ للتبرعات من قِبَل الجماعات المؤيّدة لإسرائيل في تاريخ المجلس، قبل أن يصبح نائباً للرئيس، ومن ثم رئيساً. وفي وقت يتطلّع فيه الرئيس الثمانيني إلى الحصول على ولاية ثانية، يحذّر محلّلون أميركيون من أن ما يصفونه بـ»تحالف نتنياهو - بايدن»، قد يفضي إلى خسارة الأخير تأييد بعض وجوه «الجناح التقدّمي»، ومن بينهم عضو الكونغرس من أصول فلسطينية، رشيدة طليب، والسيناتور بيرني ساندرز، ممن يطالبون إسرائيل بضبط النفس، وبوقف فوري لإطلاق النار في غزة، من ناحية، ويدينون تعامل الإدارة الأميركية مع مجريات الأمور في غزة، من منطلق تخوفهم من نتائج ذلك على ما يعتبرونه دور الولايات المتحدة كـ»وسيط نزيه للسلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، من ناحية ثانية.
وفي محاولة لشرح انعكاسات ذلك النهج على السياسة الخارجية لواشنطن، وتقييم الرأي العام العربي والمسلم، ولا سيما الأميركي منه، لها، يشدّد خالد الجندي، وهو مستشار سابق لفريق التفاوض الفلسطيني، على أن إهمال الإدارة الأميركية «هو عامل رئيس في ما نحن عليه اليوم»، في إشارة إلى التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لافتاً إلى أنّ «الشيك على بياض» المُعطى من قِبَل بايدن للإسرائيليين، «حطّم، ربّما بشكل لا رجعة فيه، ما تبقّى للولايات المتحدة من مصداقية» في الداخل والخارج على حدّ سواء. وفيما يقلّل البعض من شأن تأثير القضايا المتعلّقة بالسياسة الخارجية على اتّجاهات تصويت الأميركيين، تشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أنّ تطوّرات الحرب في غزة ستسهم في «تحفيز الكثيرين من الشباب الأميركي، ممّن تراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، على الانخراط في هذا الاستحقاق السياسي، بصورة مكثّفة قد تترك آثارها على مآلاته». وتوضح الصحيفة أنّ أقل من ربع الناخبين الشباب، الذين كان لهم دور حاسم في انتصارات الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة والكونغرس عام 2020، «لا يبدون موافقتهم على الطريقة التي يتعامل بها الرئيس» مع مجريات تلك الحرب، في حين أنّ أكثر من ثلثهم اعتبروا أنّ «ردّ فعل الحكومة الإسرائيلية على الهجمات التي وقعت في السابع من تشرين الأول»، كان «قاسياً إلى حدّ كبير».
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإنّ «بايدن قد يتلقّى (بسبب انحيازه إلى إسرائيل) ضربةً سياسية قوية (في الانتخابات المقبلة) من جانب الناخبين الأصغر سناً الذين يرون الحرب الدائرة (ضدّ الفلسطينيين) من منظور حقوقي». وتتابع أنّ هؤلاء الشباب، بخاصة من أنصار الجناح «التقدمي» في «الحزب الديمقراطي» يريدون أن تبادر بلادهم إلى «مساعدة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء، باعتبار أنهم لا يزالون غير مقتنعين بالتزام الحكومة الأميركية بحماية الأبرياء»، مشدّدة على أنّه «إذا ما استمر واقع نهج بايدن على ما هو عليه، فإن التحالف الانتخابي الذي قاده للفوز عام 2020، أصبح عرضة لخطر التفكّك، ما يجعل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أكثر احتمالاً».
وتأسيساً على ما سبق، وارتداداته على «المعركة الرئاسية» بين بايدن وترامب، أشارت الصحيفة إلى أن نتائج استطلاعات الرأي أظهرت تقدّم ترامب على بايدن في خمس من ست ولايات رئيسة «متأرجحة»، كان الأخير فاز فيها جميعاً في الانتخابات السابقة، مرجعةً ذلك إلى تراجع شعبية الرئيس الحالي في صفوف الناخبين الشباب والأقليات، والذين شكّلوا رافعته إلى البيت الأبيض. وأورد الاستطلاع الذي أجرته «نيويورك تايمز» بالتعاون مع «معهد سيينا»، أن ترامب يتقدّم في نوايا التصويت في نيفادا بحصوله على نسبة 52%، مقابل 41% لبايدن، فيما حصد في جورجيا ما نسبته 49%، مقابل 44% لمنافسه، أمّا في أريزونا وميشيغان فقد حصل على نسبة 49%، و48% على التوالي، في مقابل حصول بايدن على 44 و43% من الأصوات توالياً. وفي بنسلفانيا، كانت النتيجة حصوله على 48% من أصوات المستطلعين، في مقابل نيل بايدن 44%. والولاية «المتأرجحة» الوحيدة التي تفوّق فيها الرئيس الحالي على خصمه «الجمهوري»، كانت ولاية ويسكنسون، حيث حصد قرابة 47%، مقابل حصول ترامب على ما نسبته 45%.
وعن تداعيات مقاربة بايدن للأوضاع في غزة، على واقع الإدارة الأميركية، كشف موقع «بوليتيكو» عن قيام موظفين في وزارة الخارجية الأميركية بتوجيه رسالة احتجاج، عبر القنوات الداخلية المعمول بها داخل الوزارة، حملت انتقادات لاذعة لتعامل الإدارة الأميركية مع الحرب الإسرائيلية على غزة. وأعرب الدبلوماسيون الأميركيون الموقّعون على الرسالة، ومعظمهم من ذوي الرتب المتوسطة والدنيا، عن فقدان متزايد للثقة لديهم بنهج بايدن، متوجّهين إلى الأخير بطلبَين رئيسَين، هما: أن تدعم الولايات المتحدة وقفاً لإطلاق النار، وأن توازن بين رسائلها السرية والعلنية تجاه إسرائيل بما في ذلك توجيه انتقادات إلى التكتيكات العسكرية الإسرائيلية بشكل علني بدلاً من الرسائل السرية. وتقول الوثيقة الداخلية المسرّبة من داخل وزارة الخارجية الأميركية إنّ الفجوة بين الرسائل السرية والعلنية من جانب واشنطن حيال ما يجري في الشرق الأوسط، «تساهم في تعزيز التصوّر العام في المنطقة بأن الولايات المتحدة متحيّزة وغير نزيهة، وفي أحسن الأحوال لا تعمل على تعزيز المصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم وفي أسوأ الأحوال تضرّ بها». وختم الموقع بالتحذير من أن تفاقم تلك التناقضات الداخلية لدى إدارة بايدن «قد يزيد من صعوبة صياغتها لسياسة خارجية تجاه تلك المنطقة ككلّ».