بعد الأزمة المالية وجائحة «كورونا»، حلّ اللبنانيون عام 2021 في المرتبة الثانية، بعد الأفغان، في مؤشّر «غالوب» العالمي لجهة المشاعر السلبية والإجهاد والتوتر والعصبية والإحباط. اليوم، يواجهون حلقة جديدة في مسلسل الأزمات النفسية، جرّاء العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان والقلق من توسّعه. يؤدي ذلك إلى هلع دائم، وهوس بمتابعة الأخبار، وتوهّم أي صوت على أنه قصف، واضطرابات في النوم، وفقدان الرغبة بممارسة المهام اليومية، وكلها عوارض من المبكّر تقدير حجمها، خصوصاً «أنّنا في خضمّ أزمات متواصلة أدّت إلى ارتفاع الطلب على أدوية الأمراض العصبية والمهدّئات منذ عام 2021، ولا يزال ذلك مستمراً»، وفق نقيب الصيادلة جو سلوم ونقيب مستوردي الأدوية جوزيف زغيب.ضغوط كثيرة راكمتها الأزمات المتلاحقة من الانهيار الاقتصادي، وانسداد أفق الحلول، وجائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، والهزة الأرضية في شباط الماضي، والخشية من وقوع حرب جديدة. وهي، برأي مديرة الدراسات في مكتب «أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي» سحر مصطفى «سيف ذو حدّين. من جهة تشكل عامل قوة لأننا تخطّينا تجارب صعبة، ومن جهة أخرى تشكل عامل ضغط يرفع منسوب القلق بسبب استحضار التجارب الأليمة». وهو ما تعبّر عنه زينب التي تعيش كابوساً يومياً «من أن يُقصف البناء من دون أن أتمكّن من أن أحمل والدتي المريضة، ومن أن نموت معاً تحت الركام». تتوهّم زينب أصوات «القصف» و«أشعر بأوجاع في كل جسمي لكثرة ما أتابع من أخبار وبثّ مباشر على مدار الساعة، وبالكاد أنام ساعتين».
صور الحرب على غزة تبدو لكثيرين كـ«برومو» للحرب المقبلة. تقول مريم: «تخدّرت أطرافي عندما شاهدت أهل غزة يكتبون أسماءهم على أجسادهم لكي يتم التعرف إليهم». فيما تعاني راما من «دقّات قلب سريعة وضيق تنفّس كلما شاهدت الأخبار»، إذ «أقيم في منطقة غير آمنة وأخشى على ابنتي ووالدتي التي لا تنام إلا نادراً وتصفّر كلما سمعت خبراً سيئاً».
منذ 2021 ارتفع الطلب على أدوية الأمراض العصبية والمهدّئات


وفيما يُعدّ القلق مبرّراً في هذه الظروف، بل إن غيابه هو غير طبيعي، إلا أنه «يجب أن يبقى تحت السيطرة»، وفق مصطفى. وهو يستدعي التدخّل والمساندة «لدى الدخول في نوبات من البكاء المتواصل، وردّات الفعل المبالغ فيها عن أي حرتقة، والنوم الطويل أو الانقطاع عنه، والإفراط في تناول الطعام، وعدم القدرة على التحكّم بأوقات متابعة الأخبار».
توتّر هيثم وتجهيزه حقيبة الطوارئ وشدّة تأثره بالمجازر في غزة، كلّ ذلك انعكس على ابنه الذي لم ينه عقده الأول، والذي «بات يخاف من النوم... حتى ما يقصفونا متل أولاد غزة إذا غفيت». فيما تلفت مصطفى إلى أن «أكثر ما يخيف الأولاد أن يموت أهلهم ويبقوا وحيدين، لذلك من الخطأ مشاهدة ما يحصل في غزة على مرأى الصغار بحجة تحضيرهم لما هو آت، لأن الحرب إذا وقعت سيعيشونها مرغمين». أما تعريف الأطفال بمظلومية الفلسطينيين «فيمكن أن يحصل بطريقة لطيفة على شكل قصص ورسومات، بعيداً عن مشاهد الدم والدمار والفقدان».
التأثّر بما يجري في غزة، وفق مصطفى، ثلاثة مستويات: الأول، يتعلّق بسكان القرى الجنوبية الذين يعانون من ضغط النزوح أو تحمّل ضغوط الحرب وصوت طائرات الاستطلاع التي «صرنا نستفقدها إذا لم تحلّق فوق رؤوسنا»، كما يعلّق علي من مركبا. وهو ما يدفع فاطمة، في دير كيفا، قضاء صور، إلى «تشغيل المروحة كلما اشتدّ القصف حتى لا يسمع أولادي صوت المُسيّرات». الثاني، يرتبط بالخوف من اندلاع حرب كبرى وتخيّل سيناريوهات سوداوية محبطة، فيما يأتي الأخير نتيجة مشاهدة المشاهد القاسية والمؤذية الحاصلة في غزة. لذلك، تنصح مصطفى بـ«تخفيف التعرّض لهذه المشاهد والتعويض عنها بمتابعة الأخبار والخطابات والتصريحات لأننا لسنا بحاجة إلى رؤية المشاهد المثقلة بالدم لنعرف العدو على حقيقته، إذ قد تفيد هذه المشاهد الغرب، أما نحن فنصاب بتبلّد المشاعر عندما تصير جزءاً من روتيننا اليومي»، لافتة إلى ضرورة تقديم الدعم النفسي والاجتماعي و«الاعتقاد والإيمان سبيلاً لامتصاص القلق والخوف من الحرب».