لندن | لطالما تغنّى الليبراليون في العالم العربي، ببريطانيا، أعرق الديمقراطيات البرلمانية في الغرب، باعتبارها بلاداً للحريات الفردية وحقوق الإنسان، واعتبروا أن استثناءات هنا أو هناك، لا تفسد السياق العام لمجتمع اختار الانتقال من مزاج الإمبراطورية إلى أجواء التعدّد والتسامح؛ لكنّ احتجاجات متكرّرة على الإبادة الجماعية التي ينفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، كشفت عن هشاشة النموذج، فأطلّت التيارات الفاشية برأسها مجدّداً، وأصيب رموز النخبة الحاكمة بسعار عدواني غير مسبوق ضدّ كلّ تضامن شعبي مع فلسطين
الدور البريطاني التأسيسي لمشروع الهندسة الاجتماعية الصهيوني في فلسطين، ليس سرّاً، وهيمنة اللوبي الصهيوني على النخبة الحاكمة في المملكة أمر تعدّدت عليه الشواهد، وأثبتته الأحداث المتعاقبة. على أن بريطانيا التي فقدت نفوذها الإمبراطوري لمصلحة الولايات المتحدة، عمدت إلى تقديم نفسها، لشعبها وللعالم، كدولة نموذجية للحياة الديمقراطية، وحُكم المؤسّسات، وباعتبارها مجتمعاً حديثاً أساسه التعدّد والتسامح واحترام حقوق الأفراد. وحتى التجاوزات الصارخة على هذه الصورة المشغولة بحرفية ــ كمطاردة أساتذة الجامعات الذين لا يوافقون على السردية الصهيونية الرسمية، أو الاعتقال التعسفي لمؤسّس "ويكيليكس"، جوليان أسانج، بلا مبرّرات قانونية، أو ترحيل اللاجئين إلى حضن النظام الراوندي ذي التاريخ المخجل في ما يتعلّق بحقوق الإنسان ــ، تمّ دائماً تمريرها كاستثناءات عابرة لا تُفسد للمشهد الديمقراطي قضية.
إلى أن كان هجوم السابع من أكتوبر. يومها، سارعت الحكومة البريطانية، والنخبة السياسية في السلطة والمعارضة - بمن فيها النواب المسلمون في مجلس العموم - كما وسائل الإعلام الرئيسة جميعها، إلى إدانة العمل الفدائي المقاوم للاحتلال، معلنةً تضامنها التامّ وغير المشروط مع الدولة العبرية. وتوجّه رئيس الوزراء، ريشي سوناك، على عجل، إلى تل أبيب، لإظهار التعاطف، فيما رفضت مؤسّسات الدولة ودبلوماسيتها بشدّة كلّ الدعوات إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، على رغم تتالي الأنباء عن المذابح اليومية التي يتعرّض لها المدنيون الغزيّون على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. وكان وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، الصوت الأعلى من بين وزراء مجموعة الدول السبع الغربية الكبرى، الذين اجتمعوا في طوكيو (الثلاثاء والأربعاء الماضيَيْن)، في رفض مبدأ توجيه نداء لوقف إطلاق النار، بحجّة أنه يخدم "حماس". ولولا إصرار الجانب الأميركي على تضمين البيان الصادر عن الاجتماع دعوةً إلى هدنات إنسانية، لَصَدَر متضمّناً دفاعاً حاراً عن حقّ مزعوم لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، من دون التطرّق إلى الإبادة الجارية بحقّ الفلسطينيين.
على أن الشارع البريطاني افترق هذه المرّة عن حكومته؛ إذ نجحت دعوات وجّهتها هيئات شعبية مناهضة للحرب، ومنظّمات يسارية، وتجمّعات إسلامية، في استقطاب أعداد هائلة من المتظاهرين إلى حَراكات مؤيّدة لفلسطين نُظّمت أيام السبت في قلب العاصمة البريطانية لندن، وعدد من مدن البلاد الكبرى. كما نفّذ تلامذة العديد من الجامعات المرموقة في البلاد وقفات ومسيرات، وعلّقوا الدروس أحياناً، للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، بينما تحوّلت محطّات القطار الرئيسة عبر المملكة إلى نقاط لتنفيذ احتجاجات شعبية مفاجئة ومتنقّلة دعماً للفلسطينيين.
وقد حاولت السلطات التعامل مع هذه الاحتجاجات بنوع من القسوة؛ فأعلنت الحكومة أنها ستجرّم نداءات مِن مِثل "فلسطين حرّة من البحر إلى النهر"، واعتقلت حوالى 200 شخص لرفعهم أعلاماً فلسطينية أو لاتهامهم بإطلاق شعارات "معادية للسامية". ولكن ذلك لم يفتّ من عضُد المحتجين، الذين تضخّمت أعدادهم مع كلّ تظاهرة أسبوعية، حتى تجاوزت الـ500 ألف شخص مع أسبوعها الرابع. وبدت ملحوظةً في هذه التحرّكات، المشاركة الكثيفة من الشبان البريطانيين الصغار السنّ، إلى جانب تقاطع شبكة عريضة من فئات الجمهور الذي استفزّته المذابح: عمال وطلاب، مسلمون ومسيحيون ويهود، يساريون ومحافظون، رجال ونساء، بيض وملوّنون.
أعلنت الحكومة أنها ستجرّم نداءات مِن مِثل "فلسطين حرّة من البحر إلى النهر"، واعتقلت حوالى 200 شخص


هذه الموجة من الاحتجاجات التي أصبحت طوال شهر، جزءاً من الحياة في العاصمة ومدن بريطانية أخرى، أقلقت النخبة اليمينية الحاكمة، وتسبّبت بتوتّر شديد في الأوساط المتصهينة؛ فكان أن شرعت الحكومة التي يديرها "حزب المحافظين"، كما وسائل الإعلام الرئيسة المرئية والمقروءة التي يهيمن عليها أثرياء يمينيون، في إطلاق سيل من الأكاذيب التي قلّلت من حجم المسيرات، واتهمت المشاركين فيها بتمجيد العنف، ونشْر خطاب الكراهية، ومعاداة السامية، ودعم إرهاب حركة "حماس". وكرّر سوناك، ووزيرة داخليته، ذات الأصول الهندية، سويلا برافرمان، تنديدهما بالاحتجاجات بعبارات تليق بنظام فاشيستي، ودعوَا إلى حظر تظاهرة يوم السبت (اليوم)، بحجّة تزامنها مع "ذكرى الهدنة" في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكتب رئيس الوزراء عبر موقع "إكس"، قائلاً إن "التخطيط للاحتجاجات في يوم الهدنة أمر استفزازي وغير محترم، وهناك خطر واضح وقائم من أن يتمّ تدنيس النصب التذكاري للحرب وغيره من المعالم، وهو أمر من شأنه أن يكون إهانة للجمهور البريطاني والقيم التي ندافع عنها". وأرسل بعدها رسالةً علنية إلى قائد شرطة العاصمة، السير مارك رولي، يوم الجمعة الماضي، يخبره فيها بأنه "قلق للغاية من احتجاجات عدّة يجري التخطيط لها لتعطيل أعمال ذكرى الهدنة في نهاية الأسبوع المقبل". كما اعتبرت برافرمان أنه "من غير المقبول أبداً تدنيس يوم الهدنة بمسيرة كراهية عبر لندن. إذا مضت قدماً فهناك خطر واضح من حدوث اضطرابات عامّة خطيرة وعنف والتسبّب بأضرار للممتلكات، بالإضافة إلى الإساءة إلى ملايين البريطانيين المحترمين". وقالت، في تعليقها على بيان صادر عن عدد من كبار ضباط الشرطة أعربوا فيه عن قلقهم من تزامن الحدثَين: "على المشاركين في مسيرة الكراهية أن يدركوا أن الشعب البريطاني المحترم قد سئم من عروض الترهيب البلطجي والتطرّف هذه". وكان سوناك قد دعا، الثلاثاء الماضي، إلى اجتماع طارئ للحكومة الأمنية المصغّرة (كوبرا) في مكتبه في 10 داونينغ ستريت، لمناقشة "مستوى التهديد الإرهابي في المملكة المتحدة"، و"تأثير الحرب في غزة على المملكة المتحدة" و"مستويات التهديد المتوقّع من الإرهاب المحلّي". وإذ يبدو أن هناك توجّهاً لدى الحكومة لحظر كلّ الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين، فإن السير رولي، رفض منع مسيرة اليوم، وقال إن الشرطة لا تمتلك مثل تلك الصلاحيات، على رغم تمنّيه العلني على منظّميها بإلغائها، وهو ما رفضته على الفور الجهات المنظِّمة - تشمل عدة هيئات، منها: "حملة التضامن مع فلسطين"، و"أصدقاء الأقصى"، و"تحالف أوقفوا الحرب"، و"الرابطة الإسلامية في بريطانيا"، و"حملة نزع السلاح النووي" -. ويبدو، بحسب مطّلعين، أن تكهّنات خبراء استخبارات اطّلع عليها السير رولي، أشارت إلى أن منْع المسيرة، سيكون له تأثير عكسي على استقرار الأوضاع الأمنية في العاصمة التي يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة، وقد يتسبّب بصدامات عنيفة مع رجال الشرطة أكثر بكثير ممّا قد ينشأ بسبب المسيرة نفسها.
وعلى إثر ذلك، نشرت الوزيرة برافرمان مقالة في صحيفة "تايمز" اللندية اليمينية، اتهمت فيها قائد الشرطة بالتساهل والفشل وازدواجية المعايير في معاملة "الغوغاء المؤيّدين للفلسطينيين"، مقابل الطريقة التي تعامل بها الشرطة المتظاهرين اليمينيين والمتطرّفين القوميين. وقارنت ما سمّته بـ"مسيرات الكراهية" الأسبوعية الداعية إلى وقف إطلاق النار، بـ"التجمّعات الطائفية التي تعقدها الأطراف المتعادية في إيرلندا الشمالية". وتسبّبت المقالة بغضب واسع، فيما تردّدت دعوات إلى ضرورة إعفاء الوزيرة من منصبها، لكن سوناك جدّد الثقة بها.
واللافت أن كل هذا العداء الرسمي للتظاهرات المؤيّدة لفلسطين، يأتي على رغم حرص المنظّمين الشديد على إبقاء الاحتجاجات تحت السقوف التي لا تزعج المؤسّسة الصهيونية، وأقرب إلى دعوات لطيفة إلى وقف إطلاق النار فحسب. لا بل فَصلت "حركة التضامن مع فلسطين" من دون مناقشة، أربعة من قياديّيها في مدينة مانشستر، بعدما رفع نشطاء فرع الحركة هناك لافتة كُتب عليها: "مانشستر تدعم المقاومة الفلسطينية". كما استُبعد العديد من الناشطين الفلسطينيين البريطانيين من التظاهرات بسبب تعبيرهم علناً عن إدانتهم للصهيونية وجرائمها على أساس أنهم "معادون للسامية". كذلك، أصدر منظّمو مسيرة السبت بيانات أشاروا فيها إلى أن المسار المخطّط لها يبدأ من حديقة هايد بارك، ويتّجه عبر ماربل آرتش نحو السفارة الأميركية، بعيداً من منطقة وايتهول في قلب لندن، حيث النصب التذكاري الرئيس لانتهاء الحرب العالمية الثانية. وأكّدوا أن مسيرتهم ستبدأ بعد مرور ساعتين كاملتَين على دقيقة الصمت الوطنية لإحياء ذكرى قتلى الحرب عند الساعة الحادية عشرة.
ويخشى كثيرون من أن عجز الحكومة عن وقف المسيرة قد يدفعها إلى توريط جهات فاشية متطرّفة في مهاجمة المشاركين فيها، ما يمنحها مبرّراً لحظر كل احتجاجات مستقبلية. وبالفعل، فقد كتب تومي روبنسون، وهو مجرم فاشيستي معروف، اسمه الحقيقي ستيفن ياكسلي لينون، عبر موقع "إكس": "السبت 11/11/11 لندن، بلدك بحاجة إليك"، ونشر مقطع فيديو يدعو فيه إلى تجمّع للرجال الذين هم على استعداد للدفاع عن بلدهم لحماية النصب التذكاري من المتظاهرين المؤيّدين لفلسطين. وقالت صحف اليمين البريطاني إن قدامى المحاربين ومجموعات متطرّفة يتحضّرون للحضور إلى لندن "بسبب تهديدات من اليسار المتطرّف والمؤيّدين لفلسطين بتعطيل موكب يوم الذكرى". وتسمح الحكومة لمسيرات ينظّمها نازيون بريطانيون بالوصول أسبوعياً إلى النصب التذكاري في وايتهول. ومن جهته، يشارك حزب المعارضة الرئيس المحسوب على يسار الوسط في التهويل على المسيرات المؤيّدة لفلسطين، إذ تحدّث وزراء في حكومة الظلّ التي يقودها السير كير ستارمر، علناً، في مقابلات، عن تأييدهم إجراءات الحكومة إذا توصّلت إلى قرار بحظر الاحتجاجات.