باتت مستشفيات قطاع غزة، في الساعات الماضية، تحت مرمى القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي، والذي بات يحاصرها من جوانب عدّة، في ما يمكن تسميته بمرحلة «حرب المستشفيات»، مع تكثيف الاحتلال من استهدافه لها، والذي تسبّب باستشهاد العديد من النازحين وأفراد الطواقم الطبية. ويتركّز هذا الاستهداف في شمال القطاع ووسطه، حيث ثمة في تلك المنطقة نحو 7 مستشفيات رئيسة، هي «الإندونيسي»، «النصر»، «الرنتيسي»، «الشفاء»، «أصدقاء المريض»، و«القدس»، وجميعها تعرّضت لاعتداءات من شتّى الأنواع، تُضاف إلى تدمير مؤسّسات صحية أخرى تُقدَّر بـ120 مؤسسة.وشهد يوم أمس استهداف مبنى العيادات الخارجية وقسم الولادة في «مجمع الشفاء الطبي» الذي يُؤوي أكثر من 70 ألف نازح، ما أدّى إلى استشهاد وإصابة عدد من المواطنين. كما قصفت طائرات الاحتلال محيط مستشفى «القدس»، في ظلّ تواجد أفراد الطواقم الطبية والمرضى وأكثر من 14 ألف نازح داخله، ما أدّى إلى انقطاع التواصل مع تلك الطواقم. أيضاً، شنّ الاحتلال سلسلة غارات عنيفة في محيط المستشفى «الإندونيسي» الذي يُؤوي عشرات آلاف الجرحى والمرضى والنازحين - غالبيتهم من الأطفال والنساء والمسنّين -، ما تسبّب باستشهاد عدد من المواطنين وجرح آخرين، وإحداث أضرار جسيمة في بعض مرافق المستشفى، فضلاً عن حالات هلع بين المواطنين الذين هرعوا إليه في محاولة للاحتماء من القصف. كذلك، طاول قصف موازٍ محيط مستشفى «العودة» و«الرنتيسي للأطفال» غرب مدينة غزة، ما أدّى إلى اندلاع حريق في مرافقه، وبوابة مستشفى «النصر للأطفال»، المجاور لـ«الرنتيسي»، ما أسفر عن ارتقاء شهيدَين وإصابة آخرين.
وفي ظلّ تصاعد العدوان على المستشفيات في شمال غزة ووسطها، والتي كان طالب الاحتلال بإخلائها منذ بدء العدوان، تشير تقديرات المصادر الطبية إلى أن ساعات محدودة تفصل مدينة غزة وشمالها عن الافتقار إلى أيّ خدمات طبية، إثر خروج 20 مستشفى، من أصل 35 مستشفى، من الخدمة بشكل نهائي، إلى جانب منع تزويد المستشفيات المتبقّية باحتياجاتها ومستلزماتها، في ما يُعدّ وسيلة لارتكاب إبادة جماعية، نظراً إلى العدد الكبير من الجرحى والمصابين الذين هم بحاجة ماسّة إلى العلاج. وكانت المستشفيات في غزة، وتحديداً في الشمال، تحوّلت إلى أماكن إيواء كبيرة لأكثر من 100 ألف نازح رفضوا دعوة إسرائيل إياهم إلى التوجّه إلى جنوب القطاع. وبالتالي، فإن استهدافها اليوم يأتي للضغط على النازحين للهروب منها، فضلاً عن الدفع نحو إخلائها من الجرحى.
تبدي الطواقم الطبية في المستشفيات، رغم حصارها واستهدافها وافتقادها الموارد الطبية والحياتية، رفضها الإخلاء القسري


ولا تشذّ هذه الاعتداءات عن سياق حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة، والقائمة على قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ومنع إدخال الماء والطعام والوقود والدواء إلى القطاع، وصولاً إلى قصف التجمّعات السكانية وحتى النازحين والممرّات المحدّدة للإخلاء على غرار ما جرى أمس، وفي السابق أيضاً، فضلاً عن استهداف مستشفى «المعمداني»، وما يجري حالياً من استهداف لكلّ المستشفيات بهدف القضاء على كلّ مقوّمات الحياة وما تبقّى من وسائل لعلاج المصابين. وعلى طريق ذلك، عمل الاحتلال على ضخّ روايات كاذبة في الإعلام ضدّ المستشفيات، زاعماً تمركز قيادة المقاومة أسفلها، وهي مزاعم دحضتها الأخيرة في أكثر من مناسبة، داعيةً الأمم المتحدة إلى تشكيل فريق وزيارة المستشفيات للتأكد من زيف تلك الرواية. كما أكّدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» «(أننا) لم نجد ما يؤكد مزاعم الجيش الإسرائيلي أن مقر قيادة حركة حماس يقع تحت مستشفى الشفاء»، محذّرة من أنّ «استمرار القصف في جوار المستشفى يثير قلقاً بالغاً بشأن سلامة آلاف المدنيين هناك، ومن بينهم أطفال». وشدّدت المنظمة على أن «على زعماء العالم حثّ إسرائيل على حماية المدنيين، والتحرّك بشكل عاجل لمنع وقوع المزيد من الفظائع الجماعية»، مؤكدة أن «كل أطراف النزاع ملزمون باتخاذ الاحتياطات في جميع الأوقات لحماية المدنيين».
وإذ تبحث إسرائيل عن صورة نصر أولى في قطاع غزة، فهي تعتقد أن وصولها وسيطرتها على مستشفى «الشفاء» تحديداً، وربّما رفع العلم الإسرائيلي على سطحه، كل ذلك قد يوفّر لها تلك الصورة، ولا سيّما مع تحريض جيش الاحتلال والحكومات المتعاقبة المستمرّ منذ سنوات على المستشفى، بزعم أنه يضمّ في أسفله مقرّ قيادة «حماس» و«كتائب القسام». لكن إخلاء شمال القطاع من السكان، وتدمير كلّ مظاهر الحياة فيه، يأتيان أيضاً ضمن أولويات قيادة الحرب الإسرائيلية، التي كانت مهّدت لذلك في المرحلة الأولى من حربها، عبر إلقاء آلاف الأطنان من المتفجّرات وتسوية أحياء بالأرض هناك. أمّا المرحلة الثانية المتمثّلة في «العملية البرية»، فبات واضحاً أنها تشمل القضاء على المستشفيات وإخلاءَها، وهو ما يضغط العدو لتحقيقه من خلال عمليات القصف المكثّفة، بالتوازي مع تشديده الحصار، في تكرار لتجربة حصار مخيم جنين، أو حصار كنيسة «المهد» في الضفة الغربية في الانتفاضة الثانية، أو حصار مقرّ «المقاطعة» في رام الله.
بالنتيجة، يخدم استهداف المستشفيات في شمال غزة ووسطها مشروع التهجير الإسرائيلي الذي أعلنت إسرائيل عنه منذ بداية الحرب، وضغطت على مصر من أجل تمريره من خلال فتح سيناء أمام الفلسطينيين. وفي السياق، أعلن جيش الاحتلال، أمس، أنه لن يسمح لسكان شمال القطاع بالعودة قبل «الانتهاء من إرساء نظام جديد وتحقيق الاستقرار الأمني»، وهذان الشرطان قد يستغرق تحقيقهما، وفق الرؤية الإسرائيلية، عشرات السنوات، خاصة مع إعلان رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل «ستواصل سيطرتها على غزة ولن تمنح تلك السيطرة لأي قوة خارجية». وقال نتنياهو، في اجتماع مع رؤساء مستوطنات «غلاف غزة»: «ستكون هناك سيطرة أمنية إسرائيلية على قطاع غزة، بما في ذلك نزع السلاح الكامل، لضمان أنه لن يكون هناك تهديد من غزة». إلا أنه حتى الآن، تبدي الطواقم الطبية في المستشفيات، رغم حصارها واستهدافها وافتقادها الموارد الطبية والحياتية، رفضها الإخلاء القسري، وتصرّ على البقاء إلى جانب الجرحى والمرضى، وكذلك الحال مع النازحين الذين لجأوا إليها، في انتظار الخطوة التالية من مسلسل الجنون الإسرائيلي.