يتطلّع الأفرقاء، في الحرب الإسرائيلية الدامية على غزة، إلى الجهود القطرية لوقف إطلاق النار، والإفراج عن «الرهائن»، وفقاً لتعبير قناة «الجزيرة» الإنكليزية، أو «الأسرى» وفقاً للنسخة العربية من الشبكة النافذة، في مصطلحَين متفاوتين، في ظلّ حرب الروايات، صادرَين من جهتَين تشربان من ضرع واحد، ليعكسا الحساسيات الدولية التي على الدوحة مراعاتها في سعيها لتكون «وسيطاً مقبولاً» بين الكيان و«حماس» وداعميهما. وعلى عكس الكويت، التي انكفأت على نفسها بعد غزو صدام حسين (1990)، ما زالت قطر نشطة، رغم تلقّيها ضربات موجعة، وتلعب دوراً إقليمياً «أكبر من حجمها»، وفقاً لتعبير محبيها وخصومها على السواء.
أولاً: الجمع بين رئاسة الوزراء و«الخارجية»
رُقّي محمد بن عبد الرحمن آل ثاني (43 عاماً) إلى منصب رئيس الوزراء، في آذار الماضي، بعد سنوات سبع صعبة قضاها وزيراً للخارجية، في تكرار لتجربة حمد بن جاسم، الذي كان وزيراً للخارجية اعتباراً من 1992، ثم أُسند إليه منصب رئيس الوزراء مع احتفاظه بمنصبه الأول عام 2007، وأطاحت به الحالتان السورية والمصرية، أو لنقل إخفاقات «الربيع العربي». ويعكس الجمع بين المنصبَين، في تجربة ثانية، الأهمية التي يوليها الديوان الأميري القطري للعلاقات الإقليمية والدولية، باعتبارها أمراً حاسماً في منظومة الأمن الوطني لشبه الجزيرة.
ثانياً: المبادرات والأمن الوطني القطري
لا يمكن فصل المبادرات السياسية عن اعتقاد القادة القطريين بأن مساعيهم لرأب الصدع في هذه القضية أو تلك، تُعدّ سبيلاً حيوياً لحماية الدوحة ونظامها السياسي وثرواتها، من التهديدات الخارجية. استضافة قوى فلسطينية وأفغانية مثيرة للجدل، وتنظيم مؤتمرات للمصالحات، وتسهيل تبادل سجناء، لا تتعلّق بحبّ السمعة الحسنة والاستعراض الديبلوماسي، على أهمية ذلك، بقدر ارتباطها بالتحديات الأمنية الضخمة، التي ترى الدوحة الصغيرة، سكاناً ومساحة، أنها تواجهها. وباتت قناعتها تترسخ يوماً بعد آخر بأن التشبيك الدولي الذي تمارسه يُعدّ إحدى أهم ذخائرها الوقائية الناجعة الهادفة إلى تقوية سياجها الأمني. قد يغنيها هذا حتى عن التطبيع مع الاحتلال، الذي تنتهجه دول خليجية وعربية لإظهار اصطفافها في السلك الأميركي، والدوحة أحد أعضائه.
ثالثاً: قناة «الجزيرة»
تُعدّ قناة «الجزيرة» ذات الخطاب الشعبوي، عادة، إحدى أهمّ أذرع النفوذ الناعم لقطر وأبرز أسلحتها الدفاعية، وأهمّ حاملة طائرات لديها إطلاقاً. وبها، وبالمنصات الشقيقة ومراكز البحوث المنتشرة في مراكز القرار الدولي، صدّت الدوحة الحصار الرباعي (2017 - 2020) وأدمت أطرافه. وتلجأ الديبلوماسية القطرية إلى «الجزيرة» في مساعيها التسووية في حرب غزة، التي تُقدّم المنصة الإعلامية فيها منازلة سياسية مدعومة بالصورة، تحظى بمتابعة استثنائية، عزّز مصداقيتها سقوط شهداء من العاملين فيها وأسرهم.
هذه الفعالية، بقدر ما تجلب للدوحة من متاعب، فإن مكتسباتها مضاعفة وتستحق همّها، في غالبية الحالات، أو هذا ما ترجوه قطر، التي كان أبرز أخطائها وأخطاء أذرعها كافة التورّط في دعم المشروع الأميركي في سوريا، الأمر الذي يستحق مراجعة لم تتمّ. وقد اتضح للجميع أن أميركا لا تسعى إلّا إلى تكريس خماسية التبعية والاحتلال والحروب والاستبداد والانقسام.
وتدرك قطر أهمية ضبط إيقاع «الجزيرة»، كي لا تتحوّل إلى «قنبلة نووية» تجاه أي طرف كان. حين توشك على الوصول إلى هذه الحالة، لا يمكن إلّا تقييدها بلوحة مفاتيح سرّية، ويصبح التلويح بها أكثر نجاعة من استخدامها.
رابعاً: العلاقة مع «حماس»
انتقلت «حماس» من دمشق إلى الدوحة عام 2012، في ذروة الدعم الأميركي للمشروع العسكري لإسقاط الرئيس بشار الأسد وتحالفاته الإقليمية، وليس سعياً إلى خير السوريين. وتمت الإشادة غربياً بقطر لجذبها «حماس»، كما اعتُبر الموقف «الحمساوي» محلّ تقدير واشنطن، ولكن العلاقة بين الفصيل المقاوم والدوحة، التي احتضنت الرمز «الإخواني» الراحل يوسف القرضاوي، لم تكن جديدة. وقد تعزّزت في الخمس عشرة سنة الأخيرة، التي تخلّت فيها الدوحة عن علاقاتها الديبلوماسية مع الكيان، وكرّست حلفها مع تركيا و«الإخوان».
وثبت فشل النظريات الإسرائيلية في قراءة نوايا «حماس» وخطط قيادتها، إذ تمكنت رغم التحديات الجمّة، وعبر مقرّها في دولة حليفة لواشنطن، من استعادة علاقاتها مع «محور المقاومة»، والتي ازدادت رسوخاً مع اعتلاء يحيى السنوار وصالح العاروري في 2017 مقعدين متقدّمين في قيادة الفصيل المقاوم، وكلاهما خرجا من السجن ضمن «صفقة شاليط»، التي تمّت في تشرين الأول 2011، في ذروة «الربيع العربي»، ويعتقدان أنّ تكرار الصفقة يحتاج إلى تضحيات جسام. وربما يصحّ القول إن العاروري وزير للدفاع، والسنوار قائد لـ«كتائب القسام»، ومحمد الضيف رئيس لهيئة أركانها.
خامساً: قطر لا تتقدّم الصفوف
أبرز نتائج الحصار الرباعي على قطر كان تثبيت حقّها وحقّ كل دولة خليجية في رسم سياستها الخارجية. وتحولت الدوحة في الأسابيع الأخيرة إلى طاولة حوار دولية، في ظل علاقة الثقة مع «حماس». وبينما ظهرت الدوحة متبخترة بمساعدتها واشنطن إبّان تقهقرها الفوضوي من أفغانستان، صيف 2021، فإنها تحاول إبراز مساعيها للتهدئة راهناً على نحو غير استعراضي، وتتجنّب الظهور وكأنها القائد العربي الأبرز للمرحلة.
وفي المؤتمر الصحافي، الذي عقده وزير الخارجية الأميركي في عمّان، مؤخراً، وقف إلى جانبه وزيرا خارجية الأردن ومصر، الدولتين المجاورتين لفلسطين، في مشهد يعكس حرص الدوحة على مراعاة التوازنات، وهو أمر افتقدته سياساتها في محطّات سابقة، حين كان حمد بن جاسم «يسحر» الصحافيين، وفقاً لتعبير صحيفة «الحياة» اللندنية.
وبينما كان موقفها ناقداً للإسرائيليين، في بيان أصدرته بعيد تنفيذ «كتائب القسام» عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، فإن قطر وقّعت على البيانات البائسة التي أصدرها المحور السعودي، والتي تكاد تساوي بين الضحية والجلّاد وتمنح الكيان «حق الدفاع عن النفس»، وتتعالى على حقّ الفلسطينيين في الذود عن أرضهم. مع ذلك فقد بدا خطاب أمير قطر، تميم بن حمد، في اجتماع القمة العربية والإسلامية ملامساً للوجع الفلسطيني، وناقداً بشدة للاحتلال وداعميه. أما موقف تركيا، حليفة قطر، فلا يختلف كثيراً عن الحياد السعودي، وإن حاول إردوغان تغيير لهجته في الأسبوعين الأخيرين.
سادساً: العلاقة مع أميركا وإيران
ترتبط قطر بعلاقات مع طهران قابلة للنمو، ويصعب أن تسجّل انحداراً بعد حصار 2017، ولكن لا يصحّ مقارنتها بعلاقة الدوحة العميقة بأنقرة، في ظل حرص قطر على أن تبقى في الصف «السنّي»، فيما تحرص إيران على استدامة علاقتها الحسنة مع المحور التركي، وغير العدائية مع المحور السعودي. كما تحتفظ الدوحة بعلاقات أمنية عميقة مع واشنطن، وقد حمتها «قاعدة العديد» من تغوّل سعودي وإماراتي، ولكن القاعدة تؤذي الجوار العربي والإسلامي، ومنها ومن القواعد التي يغصّ بها الخليج، شنّت الولايات المتحدة حروبها العدوانية على العراق وأفغانستان.