على جري عادتهم، يميل قادة الاتحاد الأوروبي إلى «تقزيم» دور التكتُّل على الساحة الدولية، وحصْره في إطار مهامّ ذات طابع «إغاثي». ومن هذه الخلفية، انطلقت فعاليات «المؤتمر الإنساني حول غزة»، والذي عُقد في العاصمة الفرنسية، باريس، في التاسع من الشهر الجاري، أي بعد مضيّ أكثر من شهر على بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع. وخلاله، دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المسؤولين الإسرائيليين إلى «احترام القانون وحماية المدنيين» في غزة، لأنه «لا يمكن أن تكون هناك معايير مزدوجة في ما يتعلّق بحماية الأرواح البشرية»، مجدّداً، أمام ممثّلين عن 50 بلداً ومنظمة إنسانية، تأكيده «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وإنْ رفض فكرة تهجير سكان شمال غزة إلى مناطق جنوب القطاع باعتبارها «سيئة». وإذ تفادى ماكرون، الموقّعة بلاده على «اتفاقية منْع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» منذ أربعينيات القرن الماضي، أن يحذو حذو نظرائه من بلدان «العالم الثالث»، كرئيسَي كولومبيا وفنزويلا، لناحية توصيف ما يحدث في غزة على أنه «إبادة جماعية»، فهو اكتفى بالتعهُّد برفع المساعدات الإنسانية الفرنسية للقطاع من 20 مليون يورو إلى 100 مليون.
«مؤتمر غزة الباريسي»: سياق فرنسي وأوروبي
يشي انعقاد المؤتمر في العاصمة الفرنسية، بسعي باريس إلى استعادة «التوازن التقليدي» في مواقفها من قضايا الشرق الأوسط، واستدراك نفوذها المتآكل هناك، من بوابة مجريات الحرب على غزة، وذلك بعد زيارة قام بها ماكرون إلى الأراضي المحتلّة، عكست انحيازاً شبه تامّ إلى إسرائيل. وجاء هذا وسط تصاعُد انتقادات الأوساط الحقوقية لمواقف الحكومات الغربية من تلك الحرب، وأبرزها استنكار مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، قبل أيام، ما وصفه بـ«العقاب الإسرائيلي الجماعي» للمدنيين الفلسطينيين، وإعرابه عن قلقه المتزايد إزاء المعايير المزدوجة للمجتمع الدولي، فضلاً عن نشوء دعوى أمام «المحكمة الجنائية الدولية» كان تقدّم بها محامٍ فرنسي، باسم حوالى 100 منظّمة من المجتمع المدني، ونحو 300 من زملائه، لفتح تحقيق في شأن «إبادة جماعية» في القطاع.
على أن تطوّرات الموقف الأوروبي العام، وبخاصّة الفرنسي، والداعي ابتداءً إلى «هدنة إنسانية» هناك، تحمل دلالات على تقاطعات بين بروكسل وواشنطن التي بدأت تتحلّى بـ«نَفَس إنساني» مستجدّ نحو الحرب، ما قد يدفع إلى القول إن تلك التطورات لا تعكس تمايزاً فرنسيّاً عن موقف «الحلف الغربي»، أو نهجاً مستقلّاً في السياسة الخارجية ألفته ديبلوماسية فرنسا، بنسب متفاوتة، في عهود رئاسية على مدى تاريخها، أبرزها عهدا الرئيسَين الراحلَين شارل ديغول، وجاك شيراك، بقدْر ما ترسّخ تبعية الدور الأوروبي لواشنطن، وتماهيه مع «طلعاتها» و«نزلاتها». وما يجدر التذكير به، هنا، أن تغيُّر اللهجة، في حالتَي الولايات المتحدة وأوروبا، نابع من اعتبارات تتعلّق بالرأي العام، على وقْع التظاهرات المستمرّة في مدن أوروبية وأميركية، أكثر منه لاعتبارات أخلاقية وقانونية.
يتطلّع ماكرون إلى أن يبني على المؤتمر، لـ«إعادة تصويب بوصلة» موقف بلاده، أو «استعادة التوازن العاطفي» من جانب الإليزيه


في المقابل، ثمّة مَن يُدرج مطالبة الرئيس الفرنسي، أخيراً، بـ«العمل من أجل وقف إطلاق النار» هناك، وعدم الاكتفاء بـ«هدنة إنسانية سريعة»، في سياق امتعاض محلّي أوحت صحيفة «لوموند» ببعض مظاهره، حين نقلت عن مسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية، احتجاجهم على تجاهُل ماكرون لأصول العمل المؤسّساتي والدستوري، على خلفية تفرّده بالقرارات، وتهميشه دور الوزارة، وانحيازه بشكل صارخ إلى تل أبيب، بما يعنيه ذلك من ابتعاده عمّا درجت الأوساط الديبلوماسية على وصفه بـ«الخطوط العريضة التقليدية لسياسة فرنسا العربية». أيضاً، يَنسجم «الخطاب الجديد» لماكرون، مع توجّه أوروبي أوسع بدأ ينضح بـ«مؤشرات تغيير في اللهجة» على نحو متسارع، جاء أكثرها حدّة، على لسان نائبة رئيس الوزراء البلجيكي، بيترا دي سوتر، حين أعربت عن تأييدها مقاطعة إسرائيل، مطالبةً حكومة بلادها بفرض عقوبات ضدّها، إضافةً إلى إقرار برلمان ويلز، قانوناً يدعو إلى «وقف إطلاق النار في غزة».
وفي الإطار نفسه، ترى صحيفة «غارديان» البريطانية أن الرئيس الفرنسي أمل، عبر المؤتمر، في توحيد الجهود الدولية لمساعدة المدنيين في قطاع غزة، على المستوى الإغاثي، من ناحية، في موازاة إضفاء المزيد من الزخم على الدعوات الجارية إلى «وقف إطلاق النار لغايات إنسانية»، من ناحية ثانية، وذلك كشكل من أشكال تعويض فشل «مجلس الأمن الدولي» في اتّخاذ قرار مماثل، وكخطوة تستجيب لتكاثر المقترحات الدولية إلى معالجة الوضع الإنساني المتفاقم في غزة، كتلك المتعلّقة بإقامة مستشفيات ميدانية، فضلاً عن الدعوات إلى فتح «ممرّات إنسانية آمنة»، منها ممرّ بحري يبدأ من قبرص ويصل إلى جنوب القطاع، كان طرحه الرئيس القبرصي، نيكوس كريستودوليديس، بدعم من رئيس وزراء اليونان، كيرياكوس ميتسوتاكيس، وأيّدته رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، في «مؤتمر باريس».

أيّ إشارات يحاول أن يبعث بها ماكرون؟
الموقف الأخير لماكرون، والذي قال فيه إنه «لا يوجد مبرّر لقصف إسرائيل هؤلاء الأطفال، وتلك السيدات، وأولئك المسنين في حربها ضدّ حماس»، معتبراً أنه «لا يوجد سبب لذلك ولا شرعية»، ثمّ مناشدته الزعماء الغربيين الانضمام إلى دعوته، في ما أثار ردّ فعل غاضباً من رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي رأى أن ما قاله الرئيس الفرنسي ينطوي على «خطأ فادح»، عدّهما مراقبون إشارة جديدة «ذات مغزى» في معرض «الضغط» الذي تمارسه باريس على تل أبيب، بعد انقضاء ما يُشاع بخصوص «مهلة» الشهر، التي منحتها حكومات الغرب للإسرائيليين لـ«الانتقام» من حركة المقاومة الفلسطينية. وضمن قدرٍ من الانسجام مع واشنطن، يتطلّع ماكرون إلى أن يبني على المؤتمر، لـ«إعادة تصويب بوصلة» موقف بلاده، أو «استعادة التوازن العاطفي» من جانب الإليزيه، بما يتماشى بشكل أو بآخر مع موقف الاتحاد الأوروبي «الوسطي» كتكتُّل، وبما يتيح «تجميل» انحيازه إلى إسرائيل، عبر اجترار ما حملته تلك المواقف بقديمها وجديدها من انتقادات للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية، وتكرار غير مجدٍ للازمة «الشرعية الدولية»، وما يتفرّع منها من تصوّرات في شأن «حل الدولتَين»؛ علماً أن الديبلوماسية الفرنسية كانت «سبّاقة» في عرض فكرة ذلك «الحل» في كلمة ألقاها الرئيس الفرنسي الراحل، فرنسوا ميتران، في عام 1982 أمام «الكنيست» الإسرائيلي.
وفي معرض تعليقه على ما يمكن عدُّه تجدُّد الرهانات لدى الاتحاد الأوروبي، على فاعلية فرنسية هذه المرّة، على صعيد «عملية سلام» يكثر الحديث عنها ضمن خطّة «اليوم التالي» للعدوان على غزة، وخصوصاً مع تصويت باريس قبل أسابيع في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، يشير مصدر ديبلوماسي أوروبي إلى محدودية تأثير الاتحاد في هذه القضية، ولا سيما لجهة افتقاره إلى أدوات الضغط على إسرائيل. ويقول: «حتى وإنْ كان الاتحاد تحدوه الرغبة في أن يكون لاعباً جيوبوليتيكياً وازناً، إلّا أنه، وفي خضمّ صراعات كالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، هناك حدود لِما يمكن القيام به». وفي الإطار نفسه، يرى آرنود دونجان، وهو سياسي فرنسي، وعضو في البرلمان الأوروبي، أن العراقيل الماثلة أمام بروكسل في هذا الملفّ تتمثّل في «عدم وجود سلطة فلسطينية تتحلّى بالصدقية»، من ناحية، و«غياب الإرادة لدى الجانب الإسرائيلي بالحوار»، من ناحية أخرى.
وفي حين تمخّض «مؤتمر غزة الباريسي» عن تعهّدات من جانب الدول المشاركة بتقديم مساعدات إنسانية للقطاع الفلسطيني المحاصَر، تتجاوز قيمتها المليار يورو، جاءت ردود فعل عدد من المنظّمات الإغاثية الدولية سلبية على حصيلة المؤتمر، بسبب عدم دعوة تلك الدول إلى وضع حدّ للعنف الإسرائيلي في غزة. وفي هذا السياق، رأت منظمة «أوكسفام» في فرنسا، أن «الغياب الصارخ لدعوة قوية إلى وقف فوري لإطلاق النار، يقوّض الهدف الأساسي لهذا المؤتمر ويختزله في لفتة رمزية بسيطة». بدورها، قالت رئيسة منظمة «أطباء بلا حدود» في فرنسا، إيزابيل دوفورني، إنّه «(حتى) إذا ما تمّ إقرار هدنة ليوم أو يومين، فإنّ هذا غير كافٍ»، مؤكدة أن «توفير الإغاثة في ساحة المعركة أمر مستحيل».