أعترفُ بأنني لم أهجر التاريخ، قراءةً وبحثاً، على الرغم مما فيه من أهوال وموجعات، وعلى الرغم من أنه أبكاني مرّات كثيرة، ومنها تاريخ البلاد الفلسطينية العزيزة، لأنني وفي كلّ قراءة، ما كنت أصدّق أنّ ما حدث في فلسطين قد حدث حقّاً، لكن ما عشته وعرفته وصدّقته واقتنعت به هو أنّ ظلماً خرافياً، ثقيل الوطأة، مخيفاً في صورته، وقع على الفلسطينيين، ليس بمقدور أحد أن يفكّر به، ويكتب خطته، ويجعله واقعاً سوى الشياطين. لقد أبكتني وأدمت عينَيَّ، وقفةُ الجنرال الإنكليزي إدموند اللنبي (1861-1936) الذي حين دخل بجيوشه إلى القدس، ذهب مباشرة إلى قلعة صلاح الدين، وقال قولته التي سيكررها عندما سيزور قبر صلاح الدين في ما بعد: ها قد عدنا يا صلاح الدين؛ تلك الوقفة المحتشدة بالغطرسة، والاستعلاء، ولم تكن قولته تلك سوى التمهيد لجعل البلاد الفلسطينية وطناً قومياً لليهود، وقد قالها، قبل يومين فقط من إذاعة تصريح وعد بلفور، أي مع دخوله إلى القدس في 31 تشرين الأول عام 1917، وسوف يتقمّص المندوب السّامي البريطاني على فلسطين، اليهودي هربرت صموئيل (1870-1963) تلك الوقفة فيقلّدها عام 1920، ولكن في شرفة بلدية القدس، وليقول مثل قولة اللنبي، وبنبرتها المحتشدة بالغطرسة والاستعلاء: لقد جئت لكي أنفّذ وعد بلفور!
وأبكتني وقفةُ التفرّج العالمي، على القوة الغربية، وهي تؤلّف عصبة الأمم المتحدة التي جعلت منها منبراً، وسلطةً، وقانوناً كيما تصوغ وعد بلفور صياغة قانونية، لتؤيّد غايته الجوهرية، ولكي تصير له مرجعية عالمية معتمَدة من عصبة الأمم، حين أدخلت نصّه في صكوك الانتداب التي منحت لبريطانيا وفرنسا.


وأبكتني أيضاً أعمدةُ المشانق التي علّقها الإنكليز لمحمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤادي حجازي، لأنهم كانوا لسان الثورة الفلسطينية وقولتها في أعقاب ثورة البراق 1929، ذلك الإعدام الظالم الذي لم يحرّك شعرةً في مفرق رأس أيّ من حكّام الغرب، لقد أُعدموا وكأنهم فائض بشري، أو دمى من الخيش أو القطن، ولم يسأل أحد من كتّاب الغرب أو أحد من مفكّريه، فضلاً عن سياسيّيه، لماذا حدث ما حدث!
وأبكتني حادثة الوسيط الدولي فولك برنادوت (1895-1948) الذي قتله اليهود في 17 كانون الأول 1948 في فندق داود، في القدس الشريف، وتباهوا بقتله لأنه قال: كلّ اللجان الدولية التي جاءت لبحث القضية الفلسطينية كانت منحازة إلى اليهود، وإن قرار تقسيم فلسطين، بين أهلها والمهاجرين اليهود، هو جريمة إنسانية لا أوافق عليها، وإنه من حقّ الفلسطينيين الذين هُجّروا أن يعودوا إلى قراهم ومدنهم؛ لقد قتله اليهود وأقاموا الأفراح في القدس الغربية، ولم يطاولهم لوم أو نقدٌ أو عتب.
وأبكتني أحداث قرية دير ياسين، وما اقترفته عصابات مناحيم بيغن من مجزرة طاولت أهل القرية وهم نيام، فقتلت 253 نسمة من أصل 600 نسمة هم أهل القرية، وقد راعني وصف التاريخ لما فعله الإسرائيليون في الصّباح الباكر، حين جعلوا الأحياء من أهل القرية يحملون أمواتهم ويرمونهم في الشاحنات المكشوفة، وفي قاطرات الجرّارات الزراعية، وقد تدلّت بطونُ النساء الحوامل المبقورة والأطراف المقطّعة، أمّا الرؤوسُ المبتورة فقد علّقوها فوق قضبان الحديد، والدماء تنزف منها وتسيل، وهم يطوفون بالقرى الفلسطينية مهدّدين متوعّدين أهاليها بمصير مماثل.
وأبكتني مجزرة الدوايمة (أكتوبر 1948)، ومجزرة الطنطورة (أيار 1948) أيضاً، حين جمعت العصابات الصهيونية معظم أهالي القريتين، وأوقفتهم إلى جوار جدران البيوت وقتلتهم بدم بارد، فعانق أجسادُ الآباء الأبناء، وعانقت أجسادُ الأمهات الرضع في مشهد أليم لثقافة القتل لا يزول ولا يُمحى، ولم يكن من شاهد لكلّ ما حدث على أفعال الصهاينة في البلاد الفلسطينية قبل عام 1948 سوى: الظلم، والقوة، أما العدالة فكانت غائبة!
واليوم، يتجاسر التاريخ أيضاً، ليكتب سطوراً من دم وقهر وحزن وأسى عن كلّ ما فعله الصهاينة في البلاد الفلسطينية بعد عام 1948، والمثال الأكثر حضوراً وتمظهراً هو ما يحدث اليوم في قطاع غزة، والضفة الفلسطينية، والقدس، وأريحا، والنقب، فما من تسيّد إلا لثقافة الموت التي تعلّمها الإسرائيليون في البيوت والمدارس، فحفظوا قولاتها، واقتنعوا بها حتى صارت هي حياتهم كلّها، ثم جعلوها، بقوة السلاح، واقعاً من دم، وتدمير، وبكاء، وفقد، ومقابر، وسجن، وخوف، وهجرات قسرية للفلسطينيين!
بلى، إن ما يحدث الآن في البلاد الفلسطينية عامّة، وقطاع غزة والضفة خاصّة، هو ذيل من ذيول الكتابة التاريخية التي ابتدعتها ثقافةُ الموت الإسرائيلية البادية، لكلّ من يمتلك عينين، على شاشات التلفزة، فقميصُ الدم ترتديه غزة رغماً عنها مرّة أخرى، ومثله أيضاً قميصُ دم آخر ترتديه الضفة الفلسطينية رغماً عنها مرّة أخرى، أمّا عالم الغرب الذي يدّعي المدنية فيعيش خرساً مذلّاً، وعماءً لا يصدّق، وتجاهلاً وضيعاً مقرفاً، ويقول كذباً لا يليق أبداً بمن ينتسبون إلى غوته، وشكسبير، وشوبان، وبوكاشيو، ومونتسيكيو، وهمنغواي، وبيكاسو، وفيكتور هوغو!
أيها الغربُ المتفرّجُ على قمصان الدّم الفلسطينية التي صمّمتها وخاطتها العنصريةُ الإسرائيلية، هل أنت راضٍ عن صورتك؟!