في النتيجة، جُلّها أفعال إنسانية إجرامية، وليست أفعال وحوش أو شياطين ولا حيوانات مفترسة، لأنها تتفتّق من عقل الإنسان ومن مخيّلته. والإنسان، المكوّن الأساسي في هذه المهلكة التي أشبعت فلسطين والمنطقة والعالم منذ قرن دماً وعذاباً ودماراً، ليس هنا إلّا ذاك الصهيوني. وهو من النوع الذي يُخيّل إليه، انطلاقاً من تصوّرات تلمودية، أنه في مرتبةٍ أعلى من مرتبة الملائكة حتى، وأن بقيّة البشر خُلقوا على صورة الحيوانات، وهم أساساً وُجدوا لخدمته لا أكثر. وبالتالي، يحقّ له، بناءً على هذه التصوّرات، أن يتفوّق على الوحوش والحيوانات بأفعاله وسلوكياته الفظيعة.كانت كاتبة هذه السطور أحد أولئك الذين مرّ عليهم هذا النوع من البشر؛ وأحد الذين عاشوا بينهم، كونها وُلدت في جليل فلسطين المحتلّ، ونشأت هناك. كما أنها واحدٌ من بين مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب الذين جلسوا، على مدى أكثر من شهرين، في حضرة ضباط جهاز «الشاباك»، متنقّلين من تحقيق إلى آخر. وإذ لا تبدو هذه «المأساة» ذات أهمّية مقارنةً بما أظهرته فيديوهات التعذيب منذ السابع من أكتوبر، إلا أن استحضارها هنا مردّه إلى تذكّر تلك الدقائق الرهيبة، حين أمرت مفتّشة السجن كاتبة السطور التالية بالتعرّي والجلوس مقرفصةً، للتأكد من أنها لم تخفِ شيئاً في جسمها في طريق الدخول إلى جلسة التحقيق في سجن «الجلمة». وبعد الوصول إلى الجلسة، أتيح للكاتبة أن تسأل ضابط «الشاباك»، في مرحلة ما من التحقيق: ما هي قيمة السلام الذي سيأتي بعد كلّ هذا النهر من الدم والقهر والعذاب؟ ليجيب ببساطة: «مكتوب عندنا في التوراة، أنه سيأتي زمن يلعب فيه الرضيع مع الحيّة والذئب مع النعجة، وحين يأتي هذا الزمن، سأكون أنا الحية والذئب وستكونين أنت الرضيع والنعجة».
لم تكن تلك الإجابة سوى عيّنة مجهرية من العقل الصهيوني الشرير، ونموذجاً من أعراض الأمراض النفسية التي تستوطن أدمغة ضباط «الشاباك» والسجّانين الذين يعذّبون، منذ نحو قرن، مئات آلاف الفلسطينيين، ومن بينهم أطفال. وهي أعراض تفاقمت على نحو مهول بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به أجهزة الأمن الإسرائيلية في السابع من أكتوبر، حيث تحطّمت أسطورة التفوّق الصهيونية، وبات السلوك السادي نفسه يُستخدم، هذه الأيام، للتأكد من مدى تفوّق إسرائيل في ساديّتها. أمس، نَشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية مقطع فيديو لوزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، مصوّراً داخل أحد سجون العدو، حيث يَظهر بن غفير ملوّحاً بيديه، وعلى مقربة منه ممثّلة مصلحة السجون، وعدد آخر من المسؤولين. لا يُسمع صوت الوزير ولا حديثه، إذ يغطّي صوت «النشيد الوطني» الإسرائيلي، «هتكفا» (الأمل)، على كلّ ما عداه من أصوات. في التقرير المرفق مع المقطع المصوّر والذي نشره موقع «واينت» التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، يرد أن «هتكفا» يُبثّ في السجن 24/7، وأن بن غفير هدف، من خلال زيارته، إلى التأكد من أن الأسرى يُحتجزون في أسوأ الظروف الممكنة.
لم يسبق أن تجرّأت استخبارات أيّ دولة في العالم، على تحويل نشيدها الوطني إلى سلاح تعذيب، كما لم يسبق أن تجرّأ مواطنو أيّ دولة في هذا العالم - حتى النازيون في الرايخ الثالث - على التمتّع السادي بـ«عسكرة» موسيقى أُعدّت من أجل إلهاء الأطفال وإسعادهم، وتحويلها إلى «سلاح سرّي»، ومن ثمّ إلى «ترند» في وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى رغم أن التعذيب بالموسيقى ليس جديداً، وقد استخدمته الاستخبارات الإسرائيلية من قَبل، وكذلك نظيرتها الأميركية التي استخدمت موسيقى إلكترونية صاخبة كسلاح تعذيب في معتقل «غوانتانامو»، وفي سجونها في العراق، غير أن الإسرائيليين تفوّقوا على أنفسهم، وحتى على أميركا نفسها.
لم يسبق أن تجرّأت استخبارات أيّ دولة في العالم، على تحويل نشيدها الوطني إلى سلاح تعذيب


ففي الأيام الأولى للحرب، انتشر مقطع فيديو من أحد المعسكرات حيث احتُجز معتقلون فلسطينيون من غزة، يُظهر الأخيرين جالسين على أرض المعسكر، معصوبي العيون ومكبّلي الأيدي. وتُرافق المشهد المُذلّ أغنية أطفال باللغة العبرية، هي «ميني مامتيرا» (على اسم صاحبها)، ظلّت مشغّلة على مدى أكثر من ثماني ساعات متواصلة. اجتاح مقطع الفيديو وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام العبرية، وتحوّل إلى «ترند»، حيث عمد جنود الاحتلال إلى تصوير معتقلين جدد وإرفاق المقاطع بالأغنية المذكورة، حتى بات الإسرائيليون يصوّرون أطفالهم على منصّة «تيك توك» وهم مكبّلون وفي الخلفية أغنية الأطفال الشهيرة!
تناولت القنوات التلفزيونية العبرية ما حصل، بوصفه «سلاحاً سرّياً للشاباك»، فيما أفادت تقارير مختلفة بأن الهدف الأساسي من بثّ الأغنية بصوت عالٍ ومتواصل، هو منع المعتقلين - حين لا يكون فصلهم ممكناً - من التحدّث إلى بعضهم. غير أن الهدف الأهمّ من ذلك كلّه، كما أوضحه ضابط تحقيق سابق، هو الحؤول دون حصول المعتقل على فترة راحة، أي إبقاؤه في حالة توتّر متواصلة، ليظلّ جاهزاً لمواصلة التحقيق؛ إذ إن تكرار الموسيقى ذاتها يعزل المعتقل عن محيطه، وعن نفسه، بما يخدم بالنتيجة الهدف الأساسي، وهو دفعه للاعتراف.
كذلك، استضافت الاستديوهات الإسرائيلية، صاحب الأغنية المُشار إليها أعلاه، ميني مامتيرا، عبر «القناة 14» العبرية؛ حيث ظهر مغنّي الأطفال في الاستديو وهو يلبس قلادة عسكرية، وقميصاً أخضر، ليجيب المذيعة التي سألته «كيف تشعر بعدما تحوّلت من مغنّي أطفال إلى مغنّي حرب؟»، بأنه «شرف كبير»، متابعاً: «لقد شاهدت الفيديو في الساعة الثانية ليلاً... في البداية لم أصدّق، لكنّ القائد العسكري للفرقة هناك، أرسل بنفسه رسالة لي يقول فيها: "ميني، الفيديو حقيقي، لقد أسمعناهم الأغنية لثماني ساعات متواصلة"... لم أتخيّل في أعظم أحلامي (حصول ذلك)، لقد رغبت بأن أُسعد الأطفال الإسرائيليين، وشعب إسرائيل، لكنّي لم أتوقّع حصول هذا. حتى إنهم باتوا يدعونني الآن لأغنّي للجنود في القواعد وأرفع معنوياتهم وأرفّه عنهم».
ما تقدَّم هو سورياليّ إلى درجة لا يمكن تصوّرها؛ فماذا يعني أن يتّصل قائد عسكري بمغنّي أطفال، فجراً، ليخبره بأنه بات سلاحاً سريّاً لجهاز الأمن، بينما يقوم هذا القائد بإعطاء إرشادات وشرح الخطّة لجنوده لإنجاز حرب الإبادة، التي يُشكّل أطفال غزة هدفها الأول؟ وماذا يعني أن يتجوّل وزير «الأمن القومي» السادي في السجون لينتشي بتعذيب الأسرى بموسيقى «النشيد الوطني»؟ الواقع أن هذا السلوك السادي تحوّل إلى سلوك عادي ينتهجه كلّ مَن يدور في فلك هذه المنظومة، حيث خرجت شهادات عن المأساة التي يعيشها الأسرى، والتي لا تقف عند حدود الضرب والتعذيب النفسي والشتم والتنكيل، والاعتداء الصارخ على جسد الأسير من خلال تعريته تماماً حتى من ملابسه الداخلية، وفق ما أثبته مقطع مصوّر يَظهر فيه الأسرى عراة وهم يُنقلون في البوسطة. ويُضاف إلى ما تَقدّم، قطع المياه والكهرباء، ومصادرة كلّ الوسائل التي يمكن الأسرى أن يعرفوا عبرها التطوّرات في الخارج، ومنعهم من لقاء المحامين أو زيارات الأهل بحجّة أن إسرائيل في حالة طوارئ، وصولاً إلى حدّ أن يبوّل السجانون في زجاجات المياه ويأمروا الأسرى بالشرب منها، ويبصقوا في صحون الطعام ويدوسوا عليها ويجبروا المعتقَلين على أن يأكلوا منها.
ما سبق يتخطّى كونه أدوات تعذيب، أو وسائل تحقيق «سرّية»، فضلاً عن كونه يخالف قوانين المنظّمات «الصنمية» الدولية، التي أَثبتت أن قوانينها في هذه الحرب مجرّد حبر على ورق، وأن هيئاتها متواطئة - في الحدّ الأدنى - في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل إن لم تكن شريكة فيها... ما سبق هو سادية، سادية الإنسان الصهيوني.