لم يكُن منْح الاحتلال الإسرائيلي ضوءاً أخضرَ أميركيّاً لاقتحام مستشفى «الشفاء»، بناءً على ما استقاه البيت الأبيض من معلومات «استخبارية» جعلت المستحيلَ ممكناً، سوى مقدّمة للخلاصات التي ستخرج بها القوات المقتحِمة، والتي يَظهر أنها أُعدَّت سلفاً، فيما يَخدم فعل الاقتحام نفسه ما يَظنّ الإسرائيليون أنها صورة انتصار، جلّتها مسارعة جنود العدو إلى رفع العلم الإسرائيلي على سطح أحد مباني المجمّع الطبّي، بعد عرْض جيشهم صور مجموعة أسلحة خفيفة قال إنه عثر عليها في قسم الأشعة. وعلى هزالة العرض المتهافت الذي قدّمه المقتحمون، الذين واصلوا، لليوم الثاني على التوالي، أمس، بحثهم في طوابق مباني المجمّع، وفي أسفله، عن «غرفة القيادة والسيطرة» التي يتمركز فيها قادة حركة «حماس»، إلّا أنه أَقنع الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي ظلّ يردّد كالببّغاء ما فحواه: «سمعتُ»، و»قالوا لي». وفي غياب الأدلّة، اعتمد بايدن حصراً على عامل «الثقة»، مكرّراً اتّهامات سلطات الاحتلال، لـ»حماس»، باستخدام المستشفيات كمقرّات عسكرية، وموضحاً استتباعاً أنّ العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة «ستتوقّف (فقط) عندما لا تعود حركة حماس قادرة على القيام بأشياء مروّعة للإسرائيليين». وفي مؤتمر صحافي أعقب لقاءه نظيره الصيني، شي جين بينغ، على هامش قمة منتدى «آبيك»، في وودسايد في ولاية كاليفورنيا، قال بايدن: «لن نكشف عن المعلومات الاستخبارية التي لدى أميركا في شأن استخدام حماس مستشفيات غزة»، من دون أن يكشف حتى ما إذا كان مصدر تلك «المعلومات» أميركياً أو إسرائيليّاً. ولكنه أشار، بعد ساعات قليلة على امتناع بلاده عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي قدّمته مالطا والداعي إلى وقف (مؤقّت) لإطلاق النار في غزة، إلى أنه طلب من إسرائيل أن تكون «حذرة للغاية» في اقتحامها مجمع «الشفاء»، متبنّياً مزاعم قيام قوات الاحتلال بإدخال حاضنات للأطفال الخُدّج إلى المستشفى، قبل أن يعقّب بالقول: «وقد أُخبرت بأنّهم منحوا الأطباء والممرّضات والموظفين الفرصة للابتعاد عن الأماكن التي قد يتعرّضون فيها للأذى»، زاعماً أيضاً بأن القوات الإسرائيلية تحوّلت عمّا سمّاه «عمليات القصف الجوي الكثيف»، إلى القيام بـ»عمليات برية مركّزة على نحو أكبر»، في إشارة إلى استجابة حكومة بنيامين نتنياهو لدعوات أميركية إلى التركيز على الهجوم البري، أكثر من حملة القصف الجوي العشوائي في القطاع.وفي وقت بدت فيه لندن غائبة عن إدانة اقتحام مستشفى «الشفاء»، وسط انشغالها بمعاينة الانقسامات السياسية المترتّبة على فشل برلمانها، ليل الأربعاء - الخميس، في تمرير مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة، اكتفت باريس بالإعراب عن «قلقها البالغ» إزاء اقتحام القوات الإسرائيلية المرفق الطبي، وهو الأكبر في قطاع غزة، معتبرة أن الفلسطينيين «يجب ألّا يدفعوا ثمن» ما سمّتها «جرائم حماس»، و»خصوصاً الضعفاء والجرحى والمرضى والعاملين في المجال الإنساني الذين يواصلون عملهم بشجاعة في ظروف محفوفة بالمخاطر». وإذ أكّدت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان، أنّه «لا يجوز استخدام البنية التحتية المدنية لأغراض عسكرية»، فهي شدّدت، في الوقت نفسه، على «الضرورة المطلقة لامتثال إسرائيل للقانون الدولي الإنساني الذي ينصّ بشكل خاص على حماية البنية التحتية للمستشفيات». وفي سياق متّصل، ندّدت الناطقة باسم وزارة الخارجية، آن كلير ليجاندر، بأعمال العنف التي ينفّذها المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية المحتلّة، ووصفتها بأنها «سياسة إرهاب» تهدف إلى تهجير الفلسطينيين. وفي مؤتمر صحافي، ذكرت كلير أن حوالى نصف كمية المساعدات البالغة 100 طن التي أرسلتها بلادها إلى غزة دخلت القطاع، مضيفة أنّه ليس من حقّ إسرائيل أن تقرّر مَن سيحكم غزة مستقبلاً، وأنّ القطاع يجب أن يكون جزءاً ممّا وصفته بـ»الدولة الفلسطينية المستقبلية».
اكتفت باريس بالإعراب عن «قلقها البالغ» إزاء اقتحام القوات الإسرائيلية مستشفى «الشفاء»


وفي الاتجاه نفسه، حثّ مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إسرائيل على «ألّا يعميها الغضب» في هجومها ضدّ حركة «حماس»، مضيفاً أن بروكسل تطالب بـ»مساعدات إنسانية وغذاء وماء ووقود وحماية» للمدنيين في غزة. وجدّد بوريل، خلال زيارة لإسرائيل، تضامن الاتحاد الأوروبي مع ما وصفه بـ»حقّ الأخيرة في الدفاع عن نفسها بما يتماشى مع القانون الدولي»، مستدركاً بالقول: «لا تبرّر كل حادثة مرعبة الأخرى، لكن مات مدنيون أبرياء بمن في ذلك آلاف الأطفال في الأسابيع القليلة الماضية».
وفي معرض تعليقها على حصيلة اليوم الأول لاقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى «الشفاء»، بزعم استخدامه من قِبَل حركة «حماس» لأغراض عسكرية، وهو أمر نفته الأخيرة، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الهجوم يشكّل «لحظة فاصلة في الصراع» الدائر بين فصائل المقاومة الفلسطينية، والقوات الإسرائيلية، مشيرة إلى أنه سوف يلعب دوراً في «تحديد وتيرة الحرب ومداها». وإذ أشارت الصحيفة الأميركية إلى أنها «لم تتمكّن من التحقّق من مصدر الأسلحة والمعدّات الموجودة في الصور (التي عرضها الجيش الإسرائيلي)، أو تقييم تلك الادّعاءات حول وجود مركز القيادة» داخل المستشفى، فقد أكّدت أنه «باستثناء حصول تبادل لإطلاق النار خارج المستشفى في بداية الهجوم، لم ترد تقارير عن وقوع اشتباكات مع مسلّحي حماس» في «مجمع الشفاء»، مشيرةً، نقلاً عن شهود عيان، إلى أن اقتحام المستشفى بدا أشبه بـ»مداهمة عنيفة» من قِبَل عناصر أمنيين، أكثر من كونه «معركة ضارية بين قوّتَين عسكريتَين». واعتبرت أن «مصير الحرب ومسارها باتا معقودَين على مصير أكبر مستشفيات قطاع غزة»، موضحةً أنّ «ما تعثر عليه إسرائيل، وما لا تعثر عليه في داخله، يمكن أن يترك آثاراً على الشعور الدولي العام تجاه عملية الاجتياح البري (الإسرائيلية)، وكذلك على المفاوضات الجارية في شأن إطلاق سراح أكثر من 200 من الرهائن لدى حركة حماس». ولفتت «نيويورك تايمز» إلى أنّه «في حال لم يتمكّن الإسرائيليون في نهاية المطاف من العثور على أدلّة دامغة تفيد بأن المستشفى قد تمّ استخدامه كمركز للقيادة والسيطرة، وإيواء المقاتلين، وكمخزن للأسلحة (من قِبَل حماس)، فإنهم قد يجدون أن الوقت المتبقّي والمتاح أمامهم لتحقيق هدفهم المعلن، المتمثّل في إزالة حماس من السلطة قد تقلّص»، لافتةً أن «استهداف إسرائيل لمجمع الشفاء قد أثار قلقاً عالميّاً بالفعل». ونبّهت أيضاً إلى أن «فشل إسرائيل في إثبات ضرورة الغارة قد يجعل شركاءها الدوليين أقلّ دعماً لها في مواصلة العمليات العسكرية في غزة». وفي هذا السياق، نقلت الصحيفة عن مسؤول إسرائيلي، قوله إنّ «القادة في الداخل يأملون في تصوير سيطرة الجيش على المستشفى على أنها انتصار رمزي أمام جمهورهم».
بدورها، أكدت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ ما روّجته سلطات الاحتلال من مبرّرات للدخول إلى «الشفاء»، «لا يمكن التحقّق منه من مصدر مستقلّ». وبالاستناد إلى آراء أكاديميين وحقوقيين، أوضحت أنّ «المستشفيات تتمتّع بالحماية بموجب القانون الإنساني الدولي، ولا تفقد ذلك الحقّ إلّا في الظروف التي يتمّ فيها استخدام المنشأة من قِبَل أحد الأطراف المتحاربة»، مستدركةً بأنّه «حتى في تلك الحالة، فإن العناية بأوضاع المرضى (داخل المستشفى) تبقى ذات أهمية قصوى» على عاتق الأطراف المشار إليها. ورأت «واشنطن بوست» أن إسرائيل، وبعد مهاجمتها للمستشفى، «بات يتعيّن عليها أخذ العديد من العوامل في الاعتبار، بما في ذلك تقييم ما إذا كانت المخاطر المحتملة على أرواح المدنيين هناك تتناسب مع المكاسب العسكرية التي يمكن توقّعها جرّاء هذا العمل». وفي هذا السياق، قال المحاضر في «كلية روتغرز للحقوق» عادل حق، للصحيفة: «حتى في حالة فقدان المبنى لمزاياه الخاصة لجهة تمتّعه بالحماية (للأسباب المبيّنة أعلاه وفقاً للقانون الدولي الإنساني)، فإن جميع الأشخاص الموجودين في داخله يحتفظون بحقّهم في الحصول على الحماية»، مشيراً إلى أنّ «أيّ شيء يمكن للقوّة المهاجمة أن تفعله في سبيل ضمان استمرارية المستشفى في أداء دوره الإنساني، فهي ملزمة بالقيام به، حتى وإنْ كان هناك مكتب ما داخل أحد أقسام المبنى، يحتمل أن يكون ثمة مقاتل متحصّن فيه».
بدوره، رأى أحد كبار مستشاري «مجموعة الأزمات الدولية»، والمستشار القانوني السابق في وزارة الخارجية الأميركية، براين فينوكان، أنه «بصرف النظر عن أيّ اعتبارات قانونية، لا يبدو أن الأسلحة (التي عرضها الجيش الإسرائيلي) في حدّ ذاتها من داخل مستشفى الشفاء، تبرّر تكثيف الهجوم العسكري عليه». كذلك، نقلت الصحيفة عن مصدر دبلوماسي أوروبي، قوله، إن حكومة نتنياهو «كانت تأمل أن تؤدّي الغارة المثيرة للجدل إلى اكتشاف أدلّة دامغة على وجود نشاط مسلّح ملحوظ في مجمع الشفاء»، موضحاً أنّ «عدم العثور على دليل واضح في هذا الخصوص حتى الآن دفع الحلفاء الغربيين، بمن في ذلك الولايات المتحدة، إلى زيادة الضغط على إسرائيل لقبول وقف القتال».