غزة | أتمّت القوات البرية الإسرائيلية، فجر الثلاثاء الماضي، اقتحام «مجمع الشفاء الطبي» غربي مدينة غزة، بعد أن مارس العدو، منذ بدء حربه على القطاع، حملة تحريض ممنهجة ضدّ المستشفى الأكبر في غزة، ادّعى فيه أن هذا الأخير يشكّل أكبر غرفة قيادة وسيطرة لحركة «حماس». لا بل ذهب المحلّلون العسكريون الإسرائيليون أبعد من ذلك، ووقعوا في محاولات تهيئة الرأي العام الدولي لعملية الاقتحام، ورفع مستوى توقّعات الجبهة الداخلية الإسرائيلية منها، حينما زعموا أن اثنين من ألوية «كتائب القسام» يقيمان في قبو المستشفى، وأن عدداً من الجنود الأسرى تحتفظ بهم المقاومة في أنفاق ومخابئ سرّية في أسفلها. ولعلّ البعد المركزي الذي صنعته حملة التحريض تلك، لـ«الشفاء»، يمكن قياسه بذلك الذي أُعطي لمطار بغداد من قِبَل الجيش الأميركي في عام 2003.

في يومَي الأربعاء والخميس، وبعد أن دخلت الدبابات باحة المستشفى، وشرعت في تمشيط مبنى الولادة الذي كانت زعمت المعلومات المخابراتية أنّ قيادة «القسام» وحركة «حماس» تتّخذه مبنى لقيادة عملياتها، صُدمت هناك بالفراغ واللاشيء. وطوال يوم الجمعة، عملت جرافات الـ«d9» وزمر من البواقر والحفارات، في حرث أراضي المستشفى بحثاً عن خطوط الأنفاق المفترضة، بل وشرع العدو في انتشال جثامين 160 شهيداً دفنهم الطاقم الطبّي المحاصَر في الباحة الترابية للمرفق الطبّي، بحثاً عن جثامين بعض قتلاه. إلّا أنه حتى اللحظة، لا يبدو مفهوماً شكل الإنجاز المختلَق الذي يمكن أن يخرج به الاحتلال في قادم الأيام، أكثر من زعمه العثور على فتحة نفق قريبة من المستشفى، فيما شبكة الأنفاق في غزة تمتدّ على مساحة 365 كيلومتراً، لا بل قد تتجاوز ذلك وفق ما أوحى به حديث قائد حركة «حماس» في القطاع، يحيى السنوار، في أحدث خطاباته عقب معركة «سيف القدس» عام 2021، عندما قال إن تلك الشبكة تتجاوز الـ500 كيلومتر.
حتى اللحظة، لا يبدو مفهوماً شكل الإنجاز المختلَق الذي يمكن أن يخرج به الاحتلال في قادم الأيام


مأزق الجيش الإسرائيلي دفعه إلى نشر مادة إعلامية عبر صفحته على موقع «إكس»، تمّ تصويرها في مباني المستشفى، وفيها يَظهر جنود الاحتلال لأكثر من 10 دقائق وهم يمشّطون أقسام «الشفاء». كما استعرض المتحدث باسم الجيش معلومات قال إنها موثّقة، تزعم أن الإدارة المدنية الإسرائيلية عندما أسّست المبنى الرئيس للمستشفى في عام 1980 بنت فيه قبواً، وأن ذلك القبو هو ذاته الذي تحوّل إلى مبنى للقيادة. غير أنّ مراسلي القنوات الدولية وعلى رأسها «بي بي سي» و«سي أن أن»، والذين نظّم جيش الاحتلال جولة لهم في داخل باحات المجمع، أكّدوا أنهم لم يصادفوا أيّ عناصر مسلحة، كما لم يعثروا على إثباتات تؤكد أن أيّاً من جنبات المشفى كانت تشكّل غرفة قيادة وسيطرة. أمّا المعلومة الوحيدة غير الموثّقة التي أعلن عنها جيش العدو، والمتمثّلة في ضبط فتحة نفق في محيط «الشفاء»، فلم تُنشر أيّ تفاصيل بخصوصها، من مثل تحديد موقع الفتحة على نحو دقيق.
بالنتيجة، كلّ ما اشتهى الاحتلال وتوقّع أن يراه في «الشفاء»، بدا غائباً تماماً: لا جنود، لا قيادات صفّ أول في حركة «حماس»، لا غرف قيادة وسيطرة، فقط بضعة أسلحة خفيفة تابعة لقوات الأمن والشرطة التي كانت تحمي المستشفى، والتي خلّفها عناصر تلك القوات وراءهم قبل انسحابهم، فضلاً عن بعض أجهزة الحاسوب، وشبكات الاتصال الداخلية البديلة التي تتواصل عبرها الكوادر الإعلامية والطبية. والواضح أن هذه النتيجة خلّفت ارتياحاً شعبياً كبيراً، بعدما سقط الجميع في فخّ المبالغات والإشاعات الإسرائيلية حول المستشفى، حتى في أوساط حاضنة المقاومة. صحيحٌ أن اقتحام «الشفاء» عنى سقوط آخر القلاع الحكومية والإعلامية، وضياع البيانات الحكومية والأمنية التابعة لوزارة الداخلية، إلّا أن تلك الخسارة تظلّ مقبولةً في صراع البقاء الحالي، حيث المحكّ الشعبي الذي تتوقّف عنده المعنويات متعلّق بأمرين: مدى تحقّق الأهداف الإسرائيلية الواضحة من جهة، وإحاطات المقاومة وظهور الناطق باسمها أبو عبيدة من جهة ثانية. أمّا ما دون ذلك، فكلّ الرثاء ترف.