ليست هذه هي المرّة الأولى التي تجتاح فيها إسرائيل «مراكز الاستشفاء» (وفقاً لوصْفها في «معاهدة جنيف الدولية»)، ولكنّ الفارق الآن إمعان الاحتلال في صناعة بروباغندا كاذبة، عبر مزاوجته ما بين المستشفيات واستخدام المقاومة بنيتها التحتية كقواعد عسكرية، في محاولة لاستعادة ما تبقّى من هيبته، وطَمَعَاً في صناعة صورة نصر، إنّما يَقصد من ورائها إبهار مجتمعه وأولئك الذين منحوه غطاءً دوليّاً يشرّع استباحة الدم الفلسطيني. وهو بذلك، حاك أوحش «غارنيكا» دموية بحقّ الفلسطينيين، منذ النكبة. وما هو معلوم إلى الآن، قد حاصر جيش الاحتلال «مجمّع الشفاء الطبي» بالدبابات، واقتحمه، وجرّف باحاته وأجزاء من مبانيه الجنوبية، وخرّب أجهزته الطبية، وفجّر خط المياه في داخله، في ظلّ نفاد الطعام والوقود تماماً في المرفق. وتوازى هذا مع عمليات قنص مستمرّة، إذ لم يستطع أحد التنقّل من مبنى إلى آخر، بعدما فقد أفراد الكادر الطبي التواصل في ما بينهم. ورغم هول ما حلّ بالمستشفى، والمستمرّ حصاره والبحث في مبانيه وبين طبقاته عمّا يخدم رواية العدو، ولكنّ مجازر هذا الأخير لم توفّر مستشفيات «النصر»، و«الرنتيسي» للأطفال، و«القدس»، و«المعمداني» التي حاوطتها الدبابات. وكان مستشفى «الأهلي المعمداني» قد تعرّض، مساء الثلاثاء الواقع في 17 تشرين الأول الماضي، لقصفٍ استهدف باحته الخارجية، وذلك بعدما وجّه الاحتلال رسالةً بقذيفتَين تحذيريتَين قبل الواقعة بيومين (الأحد، 15 تشرين الأول)، هُدِمَت على إثرهما العيادات الخارجية، ومركز تشخيص السرطان بطابقيَه الثاني والرابع، وفقاً لما صرّح به وكيل وزارة الصحة في غزة، يوسف أبو الريش، وما أكده نيافة المطران حسام نعوم، رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية في المؤتمر الذي عقدته الكنيسة في القدس.
التقطت مقاطع مصوّرة صورة الصاروخ «الاستثنائي» الذي ضَرب موقف «المعمداني»، وسُمِعَ صوته المدوّي عندما تفجّر، مخلّفاً حوالى 500 ضحية، ما بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال، وهُدِمَت على إثره مرافق تابعة للمستشفى، كما لحقت بالكنيسة الإنجيلية الموجودة في داخله أضرار جسيمة. على أنّ الصحافة الإسرائيلية تباهت بادئ الأمر بالضربة، إذ غرّد ناطقون رسميون إسرائيليون معلنين مسؤوليتهم عن الغارة الفريدة. ومع ظهور الصور الأولى لفظاعة المذبحة، وتتالي الاستنكارات الدولية، اضطرّ الاحتلال لفرملة موقفه وتدارك تصريحاته العلنية، والتنصّل من مسؤوليته عبر إلصاق التهمة بحركة «الجهاد الإسلامي» التي «طار» أحد صواريخها إلى المستشفى، كما زعم. وسرعان ما امتصّت الماكينة الإعلامية ردود الفعل الدولية، وصولاً إلى اعتماد وسائل الإعلام الغربية، كما المسؤولين الغربيين، السردية الإسرائيلية للواقعة.
على أيّ حال، ليست إسرائيل وحدها مَن يتحمّل مسؤولية قصف «المعمداني»، بل أيضاً جميع الحكومات التي شدّت على يدها وسوّقت روايتها، بخاصة ممَّن أغدقوا عليها الدعم العسكري، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا. وإلى جانب المساعدة السنوية التي تخصّصها أميركا لإسرائيل، والبالغة قيمتها 3.8 مليارات دولار، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، تخصيص 14 مليار دولار إضافية للكيان. أمّا بريطانيا، فلا تنفكّ هي الأخرى تُواصل دعمها لإسرائيل، حيث تُعدّ المملكة المتحدة مورّداً مهمّاً للأسلحة إلى الدولة العبرية، إمّا من طريق العطاءات أو الهِبات التي تمنحها الحكومة البريطانية عربون صداقة مَصْلَحِية، تعبيراً منها عن وقوفها إلى جانب حليفتها. علاوة على ذلك، لا تفصح لندن إطلاقاً عمّا يُرسَل من أسلحة إلى تل أبيب. ولكن، وفقاً لحملة مناهضة تجارة الأسلحة «CAAT»، صدّرت المملكة المتحدة، بين عامَي 2018 و2022، أسلحة لإسرائيل بقيمة 146 مليون جنيه إسترليني (167 مليون يورو)، فيما تمثّلت أكبر عملية بيع في تلك المدة، بالتدريب العسكري ومعدّات الاستهداف الجوي.
ليست إسرائيل وحدها مَن يتحمّل مسؤولية قصف «المعمداني»، بل أيضاً جميع الحكومات التي شدّت على يدها وسوّقت روايتها


وبالعودة إلى الماضي القريب، في عام 2016، يمكن لحظُ تآلف العلاقة بين كل من شركة «Elbit» الإسرائيلية، وشركة «تاليس» البريطانية (Thales)، والتي ترسّخت ما بين عامَي 2018 و2020، إذ تستورد وزارة الدفاع البريطانية معدّات عسكرية إسرائيلية الصنع من «Elbit»، وتُسوّقها على أنها «مختبرة في المعركة»، أي على الفلسطينيين. وقد قامت شركة «Instro Precision» التابعة لأكبر شركات تصنيع الأسلحة في إسرائيل، «Elbit Systems»، بتصنيع معدّات للمراقبة والاستطلاع وتحديد الأهداف، كمناظير الأسلحة للمشاة والمدفعية الثقيلة، بما في ذلك أنظمة الرؤية الليلية والأنظمة الحرارية المثبتة على الأسلحة والرشاشات الثقيلة، وأنظمة التصوير بعيدة المدى، فضلاً عن أجهزة الاستهداف الكهروضوئية، والبرامج التكنولوجية للطائرات المقاتلة والمروحيات، إضافةً إلى معدات الذخائر والصواريخ والرادارات العسكرية وملحقاتها. ويجعل ما تقدَّم بريطانيا شريكاً رئيسياً في الإبادة التي ترتكبها إسرائيل حالياً بحقّ الشعب الفلسطيني.
وعلى المستوى الديبلوماسي، لا توفّرُ بريطانيا فرصةً إلّا وتستخدم فيها حقّ النقض (الفيتو) للحؤول دون تقدُّم فلسطين بطلب تحقيق من «المحكمة الجنائية الدولية» في الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. أمّا على مستوى الديبلوماسية المضادة، إن صحّ التعبير، فلا بدّ من الإشارة إلى زيارة رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، إلى الأراضي المحتلّة، حيث التقى نظيره الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، معرباً عن موقفه الصلب وتضامنه العميق مع إسرائيل. والمثير، أن سوناك مكث في فندق «النبي داود»، وهو الفندق نفسه الذي فجّرته عصابات «الإرغون» الإرهابية في عام 1946 بقيادة مناحيم بيغن، وقتلت فيه نحو 90 شخصاً، 28 منهم من البريطانيين.
ويبقى السؤال الأخير عن ردّ فعل إدارة مستشفى «المعمداني»، وما هو الدور المنوط به كمستشفى عريق تأسّس بوصفه جمعية خيرية قبل 130 عاماً على يد البعثة التبشيرية التابعة لإنكلترا في عام 1882، بصفته يتبع لها بحكم إدارته للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، والتي يتقلّد عرشها كبير رئيس أساقفة كانتربري، جاستين ويلبي، وهو للمناسبة الشخص نفسه الذي مسح رأس ملك بريطانيا وزوجته بالزيت المقدس المُصلّى عليه من قبر المسيح، والذي جُلِبَ إلى مقاطعة ويستمينيستر من معقل المسيحية: أي كنيسة القيامة. ومن هنا، يتوجّب على الكنيسة الأنجليكانية ورئيس أساقفتها، الوقوف عند مسؤولياتهما، وتحميل حكومة بريطانيا وزر الوضع القائم، بصفتها شريكة إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني، وتوصيف حقيقة ما حدث في «المعمداني»، أي: «قيام بريطانيا بقصف مستشفاها المعمداني وكنيستها الإنجيلية عبر دعمها العسكري المباشر لإسرائيل»، إضافةً إلى ضرورة ممارسة الكنيسة المزيد من الضغوط على الحكومة البريطانية.