منذ مرحلة التخطيط لبناء الكيان الإسرائيلي، أي قبل إعلان إنشاء «دولة إسرائيل»، اعتمد هذا الكيان على عاملين: تحفيز حركة الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية، وتدفّق رأس المال إليها. في تلك المرحلة شكّلت الهجرات من أوروبا، ركناً أساسياً لعملية التأسيس المجتمعي والاقتصادي. وقد ارتكزت هذه الهجرة على تمويل جماعي جمعته المؤسسات الصهيونية والذي كان بغالبيته تمويلاً من الصناديق المالية الخاصّة. وبالاستناد إلى هذين العاملين، استطاع الاقتصاد الصهيوني داخل الأراضي الفلسطينية، النمو أكثر فأكثر. فما بين عامَي 1922 و1947، نما الناتج المحلي الصافي للقطاع اليهودي في فلسطين بمعدل متوسط قدره 13.2%، وفي عام 1947 صار القطاع اليهودي في فلسطين يمثل 54% من الناتج المحلي الإجمالي لكل فلسطين. على هذا المنوال، حقّق الاقتصاد الإسرائيلي بين عامَي 1950 و1965، أي بعد إعلان «الدولة» في عام 1948، معدل نمو مرتفع، بمتوسط سنوي يزيد عن 11%. أتت التدفقات من الغرب على شكل مساعدات أميركية (تحويلات وقروض في اتجاه واحد)، تعويضات ألمانية للأفراد، بيع سندات دولة إسرائيل في الخارج، وتحويلات الدول إلى المؤسسات الصهيونية العامة وخصوصاً الوكالة اليهودية التي احتفظت بمسؤولية استيعاب الهجرة والاستيطان الزراعي. كان هذا كله رأس مال غربياً.
«رشقات» دورية من الرساميل
بين عامَي 1970 و1990 أصيب الاقتصاد الإسرائيلي بالركود التضخّمي، ما قلّص قدرة الكيان على تمويل واستيعاب الهجرة اليهودية إليه، إذ قدّرت شركة «موديلم كلكلييم» في عام 1991 أنه مقابل كل 200 ألف مهاجر يجب أن يتأمّن تمويل بقيمة تُراوح بين 20 و22 مليار دولار. لكن ضرورة تحفيز الهجرة من أوروبا كانت مرتبطة بنوعيتها، إذ يشير الباحث الصهيوني برمياهو برنوبر إلى أن 20% من المهاجرين الوافدين إلى الكيان هم من حملة الشهادات العليا في مجالات الهندسة والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، وأنه في تلك المدة استقدم الكيان نحو 10 آلاف عالم، و90 ألف مهندس و45 ألف فني هندسي وتقني... هكذا، ووسط إشكالية البحث عن التمويل، لجأ الكيان إلى نموذج اقتصادي جديد متّجهاً نحو الليبرالية. انطلقت «لبرَلَة» الاقتصاد الإسرائيلي في الثمانينيات، وتكثّفت في التسعينيات لتشمل السياسة النقدية، وأسواق رأس المال المحلية (التي أصبحت مصدر تمويل مهم للاقتصاد)، وجرى في السياق نفسه تقليص دور الحكومة في الاقتصاد على نحوٍ كبير ليصبح الاحتلال دولة رأسمالية تعيش على «رشقات» دورية من رأس المال الغربي. ولم يستثن من ذلك سوى تمسّك الكيان باحتكارات متصلة بالنشاط الاستيطاني.
واستمرّ التمويل الغربي للاقتصاد الإسرائيلي. ويرد في نشرة «التسهيلات الاستثمارية الأورو - متوسطية»، أنه بين عامَي 2000 و2012، استثمرت أوروبا نحو 14.2 مليار دولار في شركات إسرائيلية. كذلك تُفيد نشرات البنك الأوروبي للاستثمار عن مستوى شراكته مع الكيان وتمويل مشاريع متصلة بتحلية المياه والدعم الاستثماري لمراكز الأبحاث مثل أنوفيم والاستثمارات لإنتاج لقاحات ضدّ الأنفلونزا وفي الأسمدة والطاقة المتجدّدة.
اللائحة طويلة، وتُشير بوضوح إلى الجذور الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تربط الكيان بدول الغرب وأوروبا تحديداً. هذا الامتداد تحوّل في الوقت الحاضر إلى استثمارات ضخمة متبادلة مع أوروبا، ليصبح الكيان واحداً من أكبر الاستثمارات الغربية في تاريخ الإمبراطورية الغربية. فوجوده في المنطقة، يمثّل امتداداً لرأس المال العالمي نحو دول الأطراف التي يحصد منها فوائض هائلة في القيمة عبر دوره السياسي والعسكري في الشرق الأوسط.

السيطرة على الموارد
العلاقة بين إسرائيل والغرب تعتمد على تبادل العوائد بين الطرفين. يشير المفكّر سمير أمين في ورقته البحثية «دولة الفصل العنصري الإسرائيلية في السياق العالمي»، إلى طبيعة العلاقة بين إسرائيل ورأس المال العالمي، بالإشارة إلى أن قادة الصهاينة كانوا يدركون أن نشوء «دولة إسرائيل» ليس ممكناً من دون الدعم الغربي في مقابل مساهمة «الدولة» في تسهيل سيطرة القوى الرأسمالية الغربية على موارد الشرق الأوسط. وفق أمين، تسعى الرأسمالية العالمية (التي يشار إليها بـ«دول المركز الرأسمالي») للحصول على خمسة احتكارات: الموارد الطبيعية، التكنولوجيا، القطاع المالي العالمي، الاتصالات، والتسليح. أيضاً يقول أمين في دراسة «الإمبريالية الأميركية وأوروبا والشرق الأوسط»، إنّ «وجود عالم عربي غني وقوي وعصري من شأنه أن يتحدّى «حقّ» الدول الغربية - المضمون- في نهب موارده النفطية، الضرورية لاستمرار التراكم الرأسمالي».
لذا، يمثّل وجود إسرائيل أداة لقمع هذه البلدان ومنعها من النهوض. وانعكس ذلك في حرب حزيران 1967 التي انتهت بالقضاء على الحكم القومي في مصر، وخَلفَه نظام السادات الذي «حرّر» الاقتصاد وجعله مكشوفاً على مخاطر التدفقات الخارجية والتمويل الدولي. وهذا مسار أنهك، ولا يزال ينهك، الاقتصاد المصري. أي إن الاقتصاد المصري بات مكشوفاً على التدخّل الغربي، وهو ما جعل موارد مصر الطبيعية في خدمة الغرب. مثلاً، مصر تلعب أدواراً متعدّدة ومتناقضة في الوقت نفسه في مجال النفط والغاز لمصلحة إسرائيل والغرب. فرغم أنها تنتج الغاز بكميات وافرة، إلا أنها تفضّل تصديره إلى الخارج للاستفادة من عائداته بالعملة الصعبة وحجبه عن الاستهلاك المحلّي، إلا أنها في الوقت نفسه تستورد من إسرائيل الغاز وتدفع لها بالعملة الصعبة. وفي بلدان الخليج أمثلة أخرى عن مدى سيطرة بلدان المركز الرأسمالي على النفط والضغط على الدول المنتجة لخفض الأسعار.

امتيازات الحرب
شكّل الانخراط الإسرائيلي الكامل مع قوى رأس المال العالمي، رافعة دائمة للاقتصاد الإسرائيلي. يظهر الأمر واضحاً منذ اندلاع الحرب على غزّة وجرى تخصيص دولة الكيان بامتيازات دولية فائقة؛ فقد علّقت وكالات التصنيف الائتماني العالمية إصدار تصنيف جديد للاقتصاد الإسرائيلي، واكتفت بتقارير سطحية في إطار «تقييم المراقبة السلبية»، وتجاهلت مخاطر الدين الإسرائيلي المتصلة بارتفاع كلفة الاستدانة وهجرة رؤوس الأموال، وانخفاض قيمة العملة، والزيادة في عجز الموازنة، والتباطؤ الاقتصادي الناجم عن زيادة معدلات البطالة بعد استدعاء جزء كبير من الموظفين إلى احتياط الجيش، وتراجع الاستهلاك، والخسائر المباشرة للحرب... كان خفض التصنيف متوقعاً قبل الحرب، لكنّ قرار تأجيله أصبح عاملاً مساعداً للكيان على تجاوز أزمته السابقة، وتلك التي نتجت بفعل شنّ الحرب على غزّة.
للدلالة على ذلك، يمكن المقارنة بين دول حظيت بدعم «المركز الرأسمالي»، ودولة نزلت عليها نقمة «المركز الرأسمالي». فلم تكد تنفجر الحرب الروسية - الأوكرانية، حتى سارعت وكالات التصنيف إلى خفض تصنيف روسيا، وقرّرت الدول الأوروبية والبريطانية والأميركية فرض عقوبات مجتمعة عليها، ما أدّى إلى هروب الرساميل من روسيا وخسائر في الروبل تتجاوز 50% من قيمته مقابل الدولار. أما في إسرائيل، فقد مضى أكثر من 40 يوماً على تعطّل جزء لا يُستهان به من النشاط الاقتصادي من دون أي إجراء غربي سلبي، بل على العكس اتخذت إجراءات داعمة أدّت إلى تدفق رؤوس الأموال وعودة الشيكل إلى مستوى أعلى مما كان عليه عشية 7 تشرين الأوّل.
هذه المقارنة تُظهر وهم ما يُسمى «حريّة حركة رأس المال»، التي يدّعي النظام الرأسمالي النيوليبرالي أنها من أُسُسِه. وتظهر أيضاً حجم الدعم الغربي الذي يحظى به الاقتصاد الإسرائيلي. إذ يتحدّث الإعلام العبري عن توقّعه بالحصول على 40 مليار دولار من المساعدات الغربية إذا استمرت الحرب، وهو ما يمثّل نحو 8% من الناتج المحلّي الإسرائيلي.

دعم لا ينقطع
لا يظهر الدعم الغربي للاقتصاد الإسرائيلي في أيام الحرب فقط، بل هو جزء أساسي من النموّ الاقتصادي للكيان المحتل حتى في أيام السلم، وهو صار يتركّز في المجالات الحيوية والأساسية مثل التكنولوجيا. يعود ذلك إلى عام 1974 حين أنشأت شركة «إنتل» الأميركية أوّل مركز للأبحاث والتطوير في إسرائيل، وبحلول 1984 صار لدى الشركة الأميركية أوّل مصنع لها لإنتاج الرقائق الإلكترونية خارج الولايات المتحدة. من بين كل دول العالم اختارت «إنتل» إسرائيل التي تقع في منطقة تغلي بالصراعات والحروب، مع كل المخاطر التي تأتي معها، لتُنشئ فيها أوّل مصنع أجنبي لها. هذا الأمر، فتح أبواباً كبيرة وواسعة للقطاع التكنولوجي في الكيان الإسرائيلي، وخصوصاً مع فتح المجال أمام المختصين الإسرائيليين للذهاب إلى وادي السيليكون في مطلع الثمانينيات تزامناً مع سوء الوضع الاقتصادي هناك. وفي مطلع التسعينيات، أصبح المسار الطبيعي للشركات الناشئة الإسرائيلية مهيّأً لفتح فروع الأبحاث والتطوير في إسرائيل وبيع منتجاتها وخدماتها في أميركا. في هذه المدة تضخّم حجم القطاع التكنولوجي الإسرائيلي بنسبة 51%.
لا يظهر الدعم الغربي في أيام الحرب فقط بل هو جزء أساسي من النمو الاقتصادي للكيان المحتل


أسطورة القطاع التكنولوجي الإسرائيلي مبنية على توارث المعرفة التكنولوجية من الغرب، وبالأخص من أميركا. هذا التوارث هو أحد أشكال الدعم الأميركي للاقتصاد الإسرائيلي، وهو توارث موجّه سياسياً سبق أن أشار إليه سمير أمين عن هدف الرأسمالية العالمية باحتكار التكنولوجيا.
توارث المعرفة وتراكم رأس المال الغربي أتاح للشركات التكنولوجية الإسرائيلية أن تجمع في المدة ما بين عامَي 2003 و2012، نحو 1.69 مليار دولار في 25 اكتتاباً للأسهم في الولايات المتحدة و1.16 مليار دولار في 23 اكتتاباً للأسهم في أوروبا، و493 مليون دولار عبر 15 شركة في تل أبيب. وصار القطاع التكنولوجي يمثّل 18% من الناتج المحلّي الإسرائيلي، وصادراته هي مصدر أساسي للاحتياطات بالعملة الأجنبية التي تبلغ 200 مليار دولار وفق أحدث أرقام صندوق النقد الدولي. إسرائيل لا تحصل على الدعم الغربي في العمق فقط، بل هو دعم غير منقطع في كل الاتجاهات وبكلّ الطرق.