فرضت الحرب الإسرائيلية على غزة، بتكلفة يومية تناهز الـ260 مليون دولار، أعباء هائلة على كيان الاحتلال، تجلّت «بشائرها» غير المسبوقة، مع إعلان وكالة «موديز»، عزْمها مراجعة «التصنيف الائتماني» لإسرائيل، كإجراء تمهيدي لاحتمال خفضه. وهي خطوات انتهجت مثيلاتها وكالة «فيتش» التي حذّرت من تفاقم الأمور في حال توسّعت العمليات العسكرية على المستوى الإقليمي، وذلك تزامناً مع توقع بنك «جيه بي مورغان» انكماش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 11% على أساس سنوي.وفضلاً عن الارتدادات السلبية المتوقَّعة لتلك الحرب على الاقتصاد العالمي، وسط تقديرات بتجاوز أسعار النفط عتبة المئة دولار، وارتفاع مستويات التضخم بنسبة 7%، فقد سجّل الاقتصاد الإسرائيلي مؤشرات «سلبية» بدوره بالجملة منذ عملية «طوفان الأقصى»، أبرزها تراجع الاحتياطات الأجنبية، بمقدار 7.3 مليارات دولار، وارتفاع العجز في الموازنة خلال الأيام الأولى للحرب بنحو 400% على أساس شهري، بقيمة ناهزت الـ6 مليارات دولار، في ظلّ تقديرات أولية تشير إلى أن تكاليف الحرب، بما يشمل مخصّصات التعويضات، ونفقات إجلاء قرابة 250 ألفاً من المستوطنين (من «غلاف غزة» والشمال)، تخطّت الـ51 مليار دولار، من بينها خسائر مباشرة بقيمة 8 مليارات دولار، وفق أرقام «رسمية» إسرائيلية.
كما عكست مؤشرات أداء بعض القطاعات الاقتصادية في الفترة ذاتها، تعرُّضها لخسائر فادحة بفعل الحرب، كقطاع السياحة والسفر مع تراجع عدد الرحلات من وإلى مطار «بن غوريون» بنسبة 80%، بالمقارنة مع العام الماضي. وهي خسائر واجه قطاع النقل البحري «خضّات» مشابهة لها، مع إغلاق اثنين من الموانئ، إلى جانب ما عايشه قطاع البناء، الذي يشكّل 13.6% من إجمالي الناتج المحلي لإسرائيل، بحجم استثمارات قُدّر بنحو 60 مليار دولار، خلال العام الماضي. أمّا قطاع الزراعة، وهو أحد القطاعات التي لطالما تفاخر بها الاحتلال، والذي تشكّل اليد العاملة الأجنبية السواد الأعظم من القوى العاملة فيه، فيواجه نقصاً في العمالة بنحو عشرة آلاف عامل، عقب مغادرة نحو 7 آلاف عامل تايلاندي، ما انعكس اختلالات عميقة، بصورة جعلت كيان الاحتلال يضطرّ لاستيراد محاصيل كان يصدّرها حتى الأمس القريب.
ما سبق من انعكاسات اقتصادية لحرب غزة، دفع حكومة بنيامين نتنياهو إلى اتّخاذ سلسلة قرارات، من بينها خفض موازنات بعض الوزارات، على غرار حجب التمويل عن جميع الأنشطة الدعائية العالمية، باللغات الروسية والفارسية والإسبانية، التابعة لوزارة الخارجية، إضافةً إلى الموافقة على خطط وزارة المالية لتعديل الموازنة للعام الجاري عبر زيادة حجم الإنفاق بـ35 مليار شيكل (8.8 مليارات دولار)، معظمها لغايات عسكرية، على أن يتمّ تمويل الجزء الأكبر من هذه النفقات الإضافية من طريق الديون، وهي إجراءات لاقت انتقادات من قبل البنك المركزي الإسرائيلي. وتتقاطع هذه المعطيات، مع تقارير غربية أفادت بأن إسرائيل اقترضت في الأسابيع الأخيرة، 6 مليارات دولار لتمويل حربها على غزة. ولعلّ ما يُشاع عن نية تل أبيب تقليص عدد أفراد قوات الاحتياط في الجيش والذين تم استدعاؤهم بداية الحرب، وتسريح قسم من عديدها، المُقدَّر بنحو 360 ألف عنصر، يندرج في إطار أبرز تلك الارتدادات الاقتصادية على المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل.
وفي معرض تبريرها القرار، أوضحت «هيئة البث الإسرائيلية» أنه يرجع إلى التكلفة الاقتصادية المرتفعة جراء تغيّب عناصر تلك القوات عن أماكن عملهم، كاشفةً أنّ التكلفة المباشرة لمرتبات جنود الاحتياط تبلغ 5 مليارات شيكل (1.3 مليار دولار) شهرياً، معطوفة عليها تكلفة تغيّب هؤلاء عن سوق العمل، وهو ما تُقدَّر «خسائره» بنحو 1.6 مليار شيكل (427 مليون دولار). وأضافت الهيئة أنه تتمّ دراسة إمكانية مراعاة المرونة في ما يخص خدمة جنود الاحتياط، بحيث يُسمح لهم بالعودة إلى مزاولة أعمالهم لفترات طويلة، مشيرة إلى أنّ الأمر «لا يزال قيد الدراسة رهناً بالاحتياجات الأمنية والواقع الميداني المتغيّر».

جدل حادّ في أروقة تل أبيب: ما الجدوى الاقتصادية للحرب؟
من هنا، يبدو أن حكومة نتنياهو بدأت تدرس «الجدوى الاقتصادية» لإخفاقها الميداني المستمرّ في غزة. وبحسب محلّلين غربيين، فإن استمرار استدعاء أكثر من 300 ألف من عناصر الاحتياط، سيؤدي إلى توقّف أجزاء من الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما أنّ قسماً كبيراً من هؤلاء يعمل في قطاع التكنولوجيا، الذي يُعدّ قاطرة النمو والوجهة الأساسية للاستثمارات الخارجية في الاقتصاد الإسرائيلي. من منظور هؤلاء، فإن «اقتصاد الحرب» القائم في إسرائيل، وباعتباره جزءاً من إفرازات التصعيد في غزة، لا يمكنه أن يصمد إلى الأبد، بسبب ما خلّفته ظروف التعبئة العامة من ضغوط اقتصادية بالغة الخطورة.
وفي السياق، تلفت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن الحرب في غزة، تسبّبت بـ»تباطؤ قطاع التكنولوجيا في إسرائيل، بشكل مفاجئ»، ملمّحة إلى أن إيقاف الإنتاج في أحد حقول الغاز الطبيعي الأساسية في البحر (حقل تامار)، وما تبعه من انخفاض الصادرات «الغازية» بواقع 70%، كل ذلك يهدّد طموحات الكيان في التحوّل إلى مورّد أساسي للغاز إلى أوروبا، فضلاً عن تقويض مسار التطبيع بينه وبين عدد من الدول العربية. وفي معرض تحليلها للانعكاسات المحتملة لمواصلة تناقص احتياطات «المركزي»، الذي خسر نحو 30 مليار دولار من احتياطاته منذ بدء العدوان، لدعم استقرار عملته المحلية، إثر هبوطها إلى أدنى مستوياتها منذ 14 عاماً، تنبّه الصحيفة الأميركية إلى أن اتّساع نطاق الصراع من شأنه أن «يختبر قدرة إسرائيل على الصمود الاقتصادي»، مشيرة إلى أن احتمال نشوب حرب طويلة وقابلة للتوسّع، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الفوضى الاقتصادية التي ستنسحب تداعياتها على عموم المنطقة.
يُرجّح أن تراوح خسائر العدوان على غزة ما بين 3.5% و15% من الناتج المحلّي الإجمالي في إسرائيل


وبالحديث عن جدّية تلك «المخاطر»، تلفت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أنّ المستويَين العسكري والسياسي في إسرائيل، توقّعا استمرار الهجوم البري في غزة لفترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر، متحدّثة عن وجود قناعة ضمنية لدى القادة الإسرائيليين بأن استمرار ذلك الهجوم مدّة أطول سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد. وأضافت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين، قولهم إن إسرائيل لا تمتلك حتى الآن تصوراً واضحاً عن سيناريوات «اليوم التالي في غزة»، كاشفة أن جدلاً حاداً في مراكز صنع القرار الإسرائيلي وصل إلى طريق مسدود في شأن توقيت سحب بعض جنود الاحتياط وتشغيل الاقتصاد. وأوضحت أن معظم القادة الإسرائيليين يتوقّعون خفض عديد القوات وسحبها من غزة في غضون شهر أو شهرين، ذلك أنهم يرون أن الحرب على القطاع دخلت مرحلة جديدة تتطلّب تقليص حجم القوات الإسرائيلية، وعمليات القصف أيضاً.

من حربَي 2006 و2014 إلى «طوفان الأقصى»
في محاولة لمعاينة البيئة الداخلية لدى صناع القرار في إسرائيل، ينطلق معهد «شوريش للأبحاث الاجتماعية والاقتصادية» الإسرائيلي، من تآكل قيمة الشيكل والتقلبات الواسعة في سوق الأسهم في تل أبيب، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع التضخم، للإشارة إلى «حالة من عدم اليقين في أوساط المستثمرين، تسبّبت بخروج الأموال». من جهته، يوضح الأكاديمي الإسرائيلي في «جامعة تل أبيب»، دان بن ديفيد، أن إسرائيل «خاضت غمار هذا التصعيد، وهي في الأصل تعاني من مشكلة اقتصادية»، شارحاً أن «ما فاقم من حدّة الصدمة والاضطراب (على المستوى الاقتصادي) هو أن مَن تمّ استدعاؤهم للخدمة في الجيش، جلّهم من رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، والمدرّسين، والمحامين، وغيرهم من الإسرائيليين العلمانيين، في وقت يُعفى فيه نظراؤهم من المتطرّفين من الخدمة العسكرية لأسباب دينية». ويؤكد محافظ «المركزي»، أمير يارون، بدوره أن «وجود العديد من جنود الاحتياط في الخطوط الأمامية والمدنيين في الملاجئ بسبب الهجمات الصاروخية، سيكون له تأثير على النشاط الاقتصادي» في الكيان، مرجّحاً في الوقت نفسه أن «تستمرّ الحرب في الفترة المقبلة».
وبالمقارنة مع كلفة حربَي تموز عام 2006 وعملية «الجرف الصامد» في غزة عام 2014، يوضح الخبير الاقتصادي في «الجامعة العبرية في القدس» والمدير السابق لقسم الأبحاث في المركزي الإسرائيلي، ميشيل سترافشينسكي، أنّ تكلفة كل من المواجهتَين المذكورتَين لم تتخطَّ ما نسبته 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مرجّحاّ أن تراوح خسائر الحرب الدائرة في غزة حالياً ما بين 3.5% و15% من الناتج على أساس سنوي. ويتابع سترافشينسكي أن «هذه الحرب ستتسبّب بتكاليف إضافية مقارنة بما جرى في عامَي 2006 و 2014 بسبب المشاركة المكثّفة لجنود الاحتياط، الذين جرت العادة أن يُحتفظ بهم في سوق العمل»، مشدّداً على أنه «إذا ما طالت الحرب، فإن تأثير نقص الموارد البشرية ستترتّب عليه تكلفة باهظة على الاقتصاد الإسرائيلي». ويمضي سترافشينسكي في انتقاده لسياسات حكومة نتنياهو المالية، معتبراً أنّ الأولويات لا يجب أن تقتصر على إعادة تخصيص المليارات من الأموال نحو «نفقات الدفاع»، بل العمل على «تعويض الأفراد والشركات المتضرّرة، ولا سيما في مناطق الجنوب والشمال». وإذ يرى أن «إسرائيل ليست جديدة على الانخراط في الصراعات»، فهو يتوقّع أن تكون «الحرب هذه مسألة أطول وقد تتحوّل إلى مواجهة إقليمية»، جازماً بأن «طول أمد الصراع، سيكون العامل الرئيسيّ في رسم مآلات الحرب في نهاية المطاف».