غزة | تتغيّر معالم الأحياء السكنية التي تترك عليها الطائرات الحربية الإسرائيلية بصمتها. إذ تطاول الأحزمة النارية، وهي سلسلة متواصلة من الغارات التي تتركّز في خطوط مدروسة، أحياءً بكاملها، وتُستخدم فيها قنابل زنة الواحدة منها تتجاوز الـ 450 كيلوغراماً من المتفجرات. ويفترض جيش الاحتلال، في اعتماده هذا السلوك الحربي، أن أسفل تلك المناطق المستهدفة نفق للمقاومة، أو أن منزلاً في الحيّ يؤوي أحد القادة. وبناءً عليه، يبيد المنطقة بأكملها من دون النظر إلى تكدّس الآلاف من المواطنين فيها. في مخيم جباليا، ومشروع بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة، نفّذت الطائرات الحربية العشرات من هذه الأحزمة. واحدٌ منها طاول منطقة «بلوك 5» المكتظة بالآلاف من اللاجئين، ممتدّاً من مسجد «الأمين محمد» حتى الشوارع المحيطة به، متسبباً بتدمير أكثر من 50 منزلاً بشكل جزئي أو كلي. هناك، انتشل الأهالي وطواقم الدفاع المدني أكثر من مئة شهيد ومصاب، فيما أطبقت سقوف المنازل على أعداد كبيرة من السكان الذين لم تصلهم يد الإنقاذ.ومن بين تلك المنازل، منزل عائلة موسى الذي يقع في نهاية شارع العجارمة، والذي أطبق الحزام الناري عليه تماماً، لكن النقطة الفارقة التي ميّزته عن عشرات البيوت التي لاقت المصير نفسه، هو أن عدداً من أفراده استشهدوا، فيما بقي بعضهم أحياء، وقد تمكّن الأهالي من الوصول إليهم، من دون أن يستطيعوا إخراجهم. في محيط المنزل، تجمّع المئات من الأهالي مذهولين أمام المعجزة، فيما آخرون سارعوا إلى جلب ما استطاعوا من خبز وماء. أما المنقذون، فتهشّمت أياديهم التي سالت منها الدماء وهم يحاولون إدخال «المونة» إلى الأحياء من وسط الركام. هلّل هؤلاء محتفلين بالإنجاز: لقد وصل الماء والخبز لمن هم أحياء!
تتطلّب عملية الإنقاذ معدات وحفّارات وبواقر كبيرة، وتلك نادرة في هذا الوقت


تتطلّب عملية الإنقاذ معدات وحفّارات وبواقر كبيرة، وتلك نادرة في هذا الوقت. لا تتوفر في شمال القطاع كله سوى آليتين فقط، إحداهما تعطّلت، والأخرى يجري تحريكها بشكل يومي بين العشرات من مواقع القصف، بحسب ما يفيد به أحد ضباط الدفاع المدني، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «عملية انتشال الشهداء من تحت المنازل المدمّرة تتطلّب وقتاً طويلاً، إذ تحتاج إزالة ركام بعض البنايات إلى عدّة أيام، وتستهلك كميات كبيرة من السولار، والوقود عزيز وشحيح للغاية. لذا، فإن عملية الإنقاذ تأخذ الطابع الطوعي، الكلّ يشمّر عن سواعده، ويساعد قدر المستطاع».
في هذا الوقت، يقارب قرص الشمس على الغياب. لا يزال أهالي المخيم يحاولون انتشال الأحياء من أسفل طبقات المنزل التي غارت عدّة أمتار أسفل الأرض، حيث يتناوب شباب الحي على تكسير الاسمنت. وبعد عشر ساعات من العمل المتواصل، تمكّنوا من إنقاذ شخصين. عمّت البهجة وعلا التهليل: ثمّة حياة في نقطة حُكِم على جميع سكانها بالموت. في محيط «مستشفى كمال عدوان» في مشروع بيت لاهيا، نفّذت الطائرات الحربية حزاماً نارياً مماثلاً طاول عدة شوارع. وفي شهادته على الحدث، يقول أحمد حجاج، في حديثه إلى «الأخبار»، إنه «في تمام الساعة الخامسة من فجر يوم الثلاثاء، شنّت الطائرات الحربية عشرات الغارات على منازل عائلات ظاهر والهندي والدريني والبلعاوي، كما دمرت الغارات مساحات واسعة من الشوارع المحيطة بالمستشفى، مستهدفةً أكثر من 20 منزلاً دُمِّرت بشكل جزئي أو كلي». على أن حظوظ الأهالي تتفاوت، إذ لم تتمكّن سيارات الإسعاف و«الدفاع المدني» من الوصول إلى المربع المقصوف في مشروع بيت لاهيا، إلا بعد ثلاث ساعات من الحدث. والنتيجة: 80 شهيداً استطاعت أيادي المنقذين الوصول إليهم، فيما لا يزال العشرات من عائلات الهندي وغنام تحت الأنقاض.