أكثر ما كان يشغل بال قادة العدو حيال الهدنة التي بدأ سريانها، أمس، هو منع مظاهر الاحتفال الفلسطيني بإطلاق سراح مجموعة أولى من الأطفال الأسرى والنساء الأسيرات، بقوّة المقاومة. ذلك أن الاحتفال يُعدّ إحدى علائم الانتصار الذي تردّد صداه في كلّ أنحاء العالم، أثناء متابعته وقائع اليوم الأول من أيام الهدنة الأربعة، والذي شهد عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم، ولو المدمّرة. وفي المقابل، كان كلّ ما في إسرائيل يدلّ على الهزيمة، وعلى غضب كامن لدى الجمهور من الفشل، ما يؤذن بانفجار قريب في وجه صنّاع القرار الذين يحمّلهم الإسرائيليون مسؤولية هذا الفشل، على رغم محاولة هؤلاء تقديم إطلاق 13 أسيراً إسرائيلياً من الأطفال والنساء وكبيرات السن، على أنه مكسب ناجم عن الحملة العسكرية التي لم تحقّق أيّ هدف من الأهداف التي رفعها قادة العدو في بدايتها. وكان أبرز مظاهر تلك الهزيمة، هو كشف جيش الاحتلال عن حجم الفرار من الخدمة في الجيش خوفاً من الحرب، والذي وصل إلى ألفَي جندي، وإعلانه تشديد العقوبات ضد الفارّين لتشمل فترات سجن أطول.ولم يكن الاستياء الإسرائيلي من الصفقة خافياً، حتى على مستوى صنّاع القرار الذين وافقوا عليها؛ إذ نقلت محطّة «سي أن أن» عن مسؤول إسرائيلي قوله إن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ما كان ليوافق على الصفقة بالصيغة التي مضت بها لولا أن ضغط عليه الرئيس الأميركي جو بايدن. وفي مؤشّر آخر، بدأت إسرائيل، وفق ما أعلن وزير حربها، يوآف غالانت، بالتخطيط للجولة المقبلة من الحرب على غزة، والتي قال إنها ستستمرّ شهرَين على الأقل. لكنّ السؤال الأساسي الذي طرحته وسائل الإعلام الإسرائيلية، هو ما سيكون عليه موقف بايدن، حينما تنتهي مدّة الهدنة بأيامها الأربعة الأساسية، أو الممدّدة إذا حصل التمديد، ويحين موعد استئناف العدوان الإسرائيلي، في ضوء الرغبة الشديدة التي أظهرها الأميركيون في التوصّل إلى الهدنة، نتيجة الضغط العالمي الذي رتّبته عليهم تغطيتهم الكاملة للعدوان، بحيث صار كثيرون في العالم يتحدّثون عن الإدارة الأميركية بوصفها المدير الفعلي لهذه الحرب؟ ويُضاف إلى ذلك، أن أيام الهدنة التي سيتم خلالها إطلاق المزيد من الأسرى الفلسطينيين والإسرائيليين بوتيرة مماثلة لليوم الأول، تمثّل فرصة للمقاومة الفلسطينية لإعادة تنظيم نفسها، وهي التي لم يظهر عليها الوهن حتى اليوم الأخير ما قبل دخول الهدنة حيّز التنفيذ.
عشرات آلاف الأردنيين تظاهروا في عمّان تلبية لنداء «أبو عبيدة»، وتل أبيب غاضبة من إسبانيا وبلجيكا


وإذ أظهرت عودة الفلسطينيين إلى مناطقهم وأحيائهم ومخيماتهم لتفقّد منازلهم والحصول على المساعدات الإنسانية التي وصلت عشرات الشاحنات منها إلى القطاع المحاصر، حجم الدمار الهائل الذي لم يكن ممكناً تقديره في وسط المعركة، فإن ذلك ساهم في إذكاء الغضب العربي والعالمي، من مستوى الوحشية التي قصفت بها آلة العدو العسكرية القطاع. فهذا الدمار، إضافة إلى العدد الكبير من الشهداء المدنيين، أظهرا جزءاً آخر مقلقاً بالنسبة إلى إسرائيل من الخسارة، تمثّل في ارتفاع غير مسبوق في إدانة الهمجية الإسرائيلية على المستوى العالمي، واستحكام العداء لدولة الاحتلال على المستوى العربي. في الجانب الأول، صارت إسرائيل تجهد للعثور على مؤيّدين من دون أن تجد الكثير منهم، على رغم التهويل والتلويح بالعقوبات على المستويات الفردية والجماعية. كما كان مثيراً للسخط بدء التفلّت الأوروبي حتى على المستوى الحكومي من القبضة الإسرائيلية، وفق ما جلّاه المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيسا وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، وبلجيكا، ألكسندر دو كرو، عند معبر رفح بين مصر والقطاع، حيث أعلن الأول أن بلاده قد تعترف بالدولة الفلسطينية حتى لو لم يفعل الاتحاد الأوروبي ذلك، وهو ما دفع بوزارة خارجية العدو إلى استدعاء سفيرَي البلدين في تل أبيب للاحتجاج على تلك التصريحات وعلى موقف الدولتَين الذي تميّز منذ البداية بإدانة كاملة للعدوان.

(أ ف ب )

أمّا على الجانب العربي، فكانت تظاهرة عمّان كافية لإظهار المدى الذي وصل إليه الغليان في الشارع العربي نتيجة العدوان؛ إذ شارك في التظاهرة عشرات الآلاف من الأردنيين الذين أعلنوا أنهم خرجوا تلبية لنداء الناطق باسم «كتائب القسام»، «أبو عبيدة»، الذي طلب منهم التحرّك في كلمته أول من أمس. وحتى على المستوى الرسمي العربي سعت دول عربية إلى استلحاق نفسها، إذ أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن معبر رفح لن يُغلق، علماً أن فتح المعبر مثّل مطلباً شعبياً فلسطينياً وعربياً، كان الرئيس المصري قد امتنع عن تلبيته خلال الحرب. كما سارعت دول أخرى، منها السعودية، للإعلان عن وصول طائرات مساعدات إلى مطار العريش تمهيداً لإدخالها إلى غزة. ويُذكر هنا أن الإعلام الإسرائيلي كان قد أكّد أن الرياض قادت سعياً شاركت فيه عواصم عربية أخرى، لمنع اتخاذ خمسة إجراءات قاسية - من بينها استخدام سلاح النفط - ضدّ تل أبيب في القمة العربية والإسلامية التي انعقدت في العاصمة السعودية في الحادي عشر من تشرين الثاني الجاري، لإجبارها على وقف العدوان على غزة.
وبحلول ساعات المساء الأولى كانت إسرائيل قد تسلّمت 13 أسيراً هم أربعة أطفال وست مسنّات وأربع فتيات وصبي، أفرجت عنهم حركة «حماس»، التي أطلقت كذلك سراح 11 عاملاً تايلندياً وفيليبيني واحد، بينما أفرج العدو من سجن عوفر عن 39 أسيراً فلسطينياً من الأطفال والنساء. وفي مظهر آخر من مظاهر الانتقام الإسرائيلي، عمدت قوات الاحتلال إلى مداهمة منازل عدد من الأسرى المُفرج عنهم، بتعليمات مباشرة من وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي المتطرّف، إيتمار بن غفير، الذي طلب منع احتفال الفلسطينيين بالمُفرج عنهم.