رام الله | لا تَعرف مدينة جنين ومخيّمها هدنة أو وقفَ إطلاق نار؛ فهي تعيش حالة تأهُّب دائمة، في ظلّ معركة مفتوحة تخوضها منذ أكثر من عامَين. وعلى رغم الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بها مع كلّ اجتياح، إلا أن المدينة تخرج أقوى ممّا كانت عليه في كلّ مرة، لتقول: «المجد للمقاومة»، وهو ما حصل في أعقاب المعركة الجديدة التي خاضها المقاومون في المخيم، منذ مساء السبت حتى صباح الأحد، بكل ما أوتوا من بأس وشراسة وإمكانات، والتي ارتقى فيها 5 شهداء وأصيب 14 شخصاً، من بينهم ثلاث نساء، وثلاث إصابات خطيرة، جرّاء قصف منزل في حارة الدمج. وفي وقت لاحق، عمّ الإضراب الشامل جنين ومخيمها، حداداً على الشهداء الذين شُيّعوا بمشاركة آلاف الفلسطينيين، وسط هتاف متجدّد بتأييد المقاومة.وفي أحد منازل المخيم، استهدفت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، القيادي في «كتيبة جنين»، أسعد علي الدمج (32 عاماً)، كما استشهد كلّ من: عمار أبو الوفا (21 عاماً)، أحمد أبو الهيجا (20 عاماً)، محمد فريحات (27 عاماً) والطفل محمود أبو الهيجا (17 عاماً). ووجّه والد الشهيد الدمج رسالة عبر وسائل الإعلام، مؤكداً أن ابنه هو «واحد من الشهداء الذين قدّموا أنفسهم على مذبح الحرية حتى تحرير فلسطين»، وأن «فلسطين عروس مهرها الدماء»، لافتاً إلى أن «هذه المعركة قد لا تكون الأخيرة، لكنها إحدى الجولات مع الاحتلال الصهيوني الذي أثبتت كل التجارب معه أن الكفاح المسلّح هو الطريقة الوحيدة للتعامل معه». وأضاف: «رسالتي إلى الاحتلال: مهما استشهد من أبنائنا، ومهما قتلتم، سنواصل هذا الطريق، ولو استمرّ الاحتلال 75 عاماً أخرى، فإنّنا سنحرّر فلسطين مهما طال الزمن».
وأسعد الدمج هو أحد القادة المؤسّسين لـ«كتيبة جنين»، اعتقلته قوات الاحتلال في عام 2011، وأمضى في سجون العدو 5 سنوات ونصف سنة. وبعد الإفراج عنه، تزوج، ورزق بطفل يبلغ من العمر حالياً 4 سنوات. وعلى رغم أن زوجته حاملٌ بطفلهما الثاني، فضلاً عن أنه كان قد أصيب برصاصة في عنقه في شهر كانون الثاني الماضي، وأصيب أيضاً خلال قصف الاحتلال قبل شهرين مسجد «الأنصار» في مخيم جنين، لكن ذلك لم يجعله يحيد عن نهج المقاومة. أمّا أبو الهيجا، فاستشهد بينما كان نائماً في سريره داخل منزله، جراء إطلاق الاحتلال الرصاص الحي على منازل المواطنين، ما أدى إلى إصابته برصاصتَين اخترقتا شباك غرفته واستقرّتا في بطنه. وفي وقت لاحق، اقتحمت قوات الاحتلال بيته، وقامت باحتجازه، مانعةً نقله بالإسعاف لأكثر من ساعة وربع ساعة، بحسب شهادة والده، ليرتقي شهيداً لاحقاً وهو في مركبة الإسعاف في طريقه إلى المستشفى.
وأتى الاقتحام الواسع لمدينة جنين ومخيمها، مساء السبت، فيما كانت أنظار الفلسطينيين متجهة صوب إطلاق سراح الأسيرات والأطفال من سجون الاحتلال بموجب صفقة التبادل. واقتحمت قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي، ترافقها جرافات عسكرية، المدينة والمخيم، وحاصرتهما من جميع الجهات، فيما حلّقت الطائرات المسيّرة بكثافة في السماء، وانتشرت أيضاً فرق القناصة على سطوح المباني المطلّة على المخيم، وفي داخلها. ومنذ اللحظات الأولى للاقتحام، خاض المقاومون اشتباكات عنيفة مع قوات الاحتلال، استمرت حتى صباح الأحد، وسط تفجير العشرات من العبوات الناسفة بالآليات العسكرية، بينما لجأت القوات المقتحِمة، في ظلّ عجزها عن التصدّي لبسالة هؤلاء المقاومين، إلى استخدام القذائف والصواريخ؛ فأطلقت العديد من قذائف «الأنيرغا» التي تسبّبت إحداها باحتراق منزل عائلة الشهيد صهيب الغول، فيما شنّت الطائرات المسيّرة 10 غارات استهدفت منازل ومقرّ «اللجنة الشعبية لخدمات اللاجئين». كذلك، أعلن جيش الاحتلال اعتقال المطارَد أسامة بني فضل، منفّذ عملية حوارة، والتي أسفرت عن مقتل مستوطنَين اثنين، في 19 آب الماضي، عقب حصار المنزل الذي تحصّن فيه المنفذ وقصفه.
وعلى جري عادتها، عمدت قوات الاحتلال إلى تجريف الشوارع والطرق وتدمير البنية التحتية وممتلكات المواطنين وقطع الاتصالات. كما حاصرت مستشفى «جنين الحكومي»، ومستشفى «ابن سينا»، ومقرّ «جمعية الهلال الأحمر» الفلسطيني، ومنعت سيارات الإسعاف من التحرّك إلا بالتنسيق المسبق معها، في سياسة باتت ثابتة في كل اقتحام لمختلف مناطق الضفة الغربية، فيما بقي مستشفى «الرازي» الوحيد القادر على استقبال الجرحى. كما اعتقلت قوات الاحتلال المصابَين: عز حردان وعبدو الجمال من داخل مركبة إسعاف، وشباناً آخرين.
ومنذ بدء العدوان على غزة، كثّف جيش الاحتلال من استهدافه لمدينة جنين ومخيمها بشكل استثنائي، على اعتبار أنها إحدى الجبهات التي يخوض ضدّها حرباً على غرار جبهتَي غزة ولبنان، إذ نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مصدر أمني إسرائيلي، قوله: «(إنّنا) نمارس ضغطاً كبيراً مع سلسلة عمليات متواصلة وكبيرة لم تشهدها جنين منذ سنوات. المجموعة المسلّحة في مخيم جنين ستتفكّك وسيتمّ القضاء عليها»، مشيراً إلى أن هدف العمليات الإسرائيلية الحالية هو «منع تنفيذ عمليات للمقاومة» في الضفة الغربية. وأضاف أن «العمليات العسكرية في جنين تتم بالتزامن مع الحرب على غزة، والعمليات العسكرية على الحدود الشمالية، وكل هذا جزء من عملية قاسية تنفذها قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي لتفكيك كتائب المسلحين في المخيمات»، علماً أن جيش الاحتلال أطلق منذ قرابة عامين عملية «كاسر الأمواج» في الضفة الغربية لاجتثاث المقاومة بعد سلسلة عمليات فدائية انطلقت من جنين، لكنها فشلت في تحقيق هدفها، بل ازداد اتّساع رقعة المقاومة المسلحة في الضفة.
ولم يقتصر مشهد الضفة الساخن على جنين فقط؛ إذ استشهد الشاب عدي صنوبر (30 عاماً) من بلدة يتما قرب نابلس، بعد إطلاق الاحتلال النار عليه خلال اقتحام البلدة، ما أدى إلى إصابته بالرصاص الحي في وجهه، خلال مواجهات فيها، قبل أن يقضي نحبه. كما استشهد الطفل محمد صالح (16 عاماً) برصاص الاحتلال بالقرب من مستوطنة «بساغوت» في مدينة البيرة، فيما شنّ جيش العدو حملة مداهمات وتفتيشات في مناطق متفرّقة، تخلّلتها مواجهات في بعض المناطق.
يُشار إلى أن عدد الشهداء ارتفع في الضفة الغربية إلى نحو 239 منذ بدء معركة «طوفان الأقصى»، بالإضافة إلى قرابة 3 آلاف جريح.