غزة | يمكنني أن أزعم أنّني الصحافي الوحيد الذي دخل حي الشجاعية شرق مدينة غزة. تشير حفاوة استقبال الأهالي إلى ذلك. تزاحم المئات منهم لتصوير منازلهم المدمّرة، ولتقديم المياه والقهوة. أعرف هذا الحي كما أعرف أبناء أسرتي، إذ عملت فيه معلّماً لمدّة أربع سنوات. في أوقات، يشتكي أهله من إهمال وزارة الحكم المحلي والبلديات. هو واحد من الأحياء الطرفية المجاورة للسياج الفاصل، والذي في كلّ الحروب السابقة، كما في الحالية، دفع فاتورة مربعة من الدماء. وعلى أعتابه في حرب عام 2014، تعرّضت القوات البرية الإسرائيلية لمقتلة عظيمة، وفيه أُصيب مسؤول وحدة «غولاني» السابق، غسان عليان، وإلى الشمال منه قليلاً، أُسر الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون. ولهذا، ارتكبت المدفعية وسلاح الطيران الإسرائيلي في تلك الحرب مجزرة كبرى فيه، قضى فيها أكثر من 200 شهيد في لحظة واحدة.الأطفال الذين علّمتهم في عام 2015، أضحوا رجالاً. قابلت كثيراً منهم. أحفظ قسمات وجوههم وتغيب الأسماء عن الذاكرة. يخبرني هؤلاء عن أحمد فرحات، وهو أحد الطلاب النجباء، والذي أنهى دراسة الطب، وارتقى برفقة أفراد أسرته جميعاً. عبرنا شارع بغداد، إحدى الطرق الرئيسية في الحي، وعلى امتداده نفّذت الطائرات الحربية حزاماً نارياً تسبّب في حفر عميقة، انهارت على إثرها المنازل على طرفَي الطريق. المشي فوق الركام مرهق، ولكن المهمّة تستحقّ. يقود شارع بغداد إلى سوق الخضار والبسطات. أخبرنا الأهالي بأن الطائرات الحربية ارتكبت أكثر من 10 مجازر هناك. عبرنا في ما يشبه أجواءً من الاحتفاء إلى حيّ الطوابين، حيث أكثر من 50 منزلاً دُمّرت على رؤوس سكانها. المصيبة هنا، أنّ العائلات التي استشهدت، لم يبقَ منها أحد ليتولّى مهمّة انتشال الشهداء.
«150 شهيداً لا يزالون تحت الركام»، قال الشاب العشريني قاسم، الذي يتولّى طوعيّاً، برفقة 5 من أصدقائه، المهمّة اليومية المتمثلة في تكسير أسقف الإسمنت، لانتشال الشهداء: «في 7 تشرين الثاني الجاري، قُصف المربع الذي نحن فيه، لم تصلنا أيّ سيارات إسعاف، ولا دفاع مدني. طوال أيام، كنّا نسمع صوت الأحياء، ونحاول عبثاً الوصول إليهم. نعمل من 18 يوماً، ولم نستطع الوصول إلّا إلى 14 شهيداً، استخرجناهم، ثم أدركنا أنّنا لن نستطيع الوصول بهم إلى المستشفى، أعدناهم مجدّداً تحت الركام. في كل مكان ترى فيه أغصان الآس، أسفله جثامين لشهداء».
«لقد مَنّ الله عليّ في أن أعيش في زمن إساءة وجه إسرائيل، أولادنا أذلّوهم في 7 أكتوبر»


شققنا طريقنا مجدداً من بين الركام إلى منطقة الجديدة، حيث تتكرّر مشاهد التدمير الممنهج التي كنّا قد شاهدناها في مناطق الشيخ زايد والعودة والندى في أقصى شمال القطاع. يوسف، هو أحد طلابي الذي تولّى مهمّة الإرشاد في هذا الحيّ، حيث تحوّلت مئات البيوت إلى مقابر أيضاً. يسمي الولد الشقي الذي أضحى مهندس حاسوب، أسماء العائلات المبادة: «سكر، حسونة، البطنيجي، فرحات، أبو عمر، سعد، أبو العطا، جندية»، كل تلك العائلات دُفنت أسفل منازلها. لا شيء يعبّر عن الحياة. رائحة الجثامين المتحلّلة تزكم الأنوف. فوق ركام أحد البيوت، برز عجوز رافعاً شارة النصر، ذهبنا إليه مسرعين، اسمه أبو مهدي، يأتي يومياً من الصباح الباكر ويجلس فوق طبقات المنزل، يقضي ساعات النهار قريباً من أولاده الستة وأحفاده الـ17 المدفونين تحت الركام: «في رأيك انتصرنا يا حاج؟»، سألته، فأجاب: «قتلونا في زمن لمبة الكاز، في زمن التلفزيون الأسمر والأبيض، قتلونا في الأتش دي، قتلونا في زمن الفايسبوك، وما زلنا نقاومهم، ما دمنا أحياء وصامدين، فنحن منتصرين».
أبو مهدي، هو طبيب متقاعد، عمل لـ35 في مستشفيات القطاع، ثم افتتح بعد انتهاء مدة وظيفته الحكومية، عيادة يعالج فيها أهالي الحيّ بالمجّان. كان يمكن أن يلاقي مصير أولاده وأحفاده نفسه، لولا أنه أصرّ ألّا يترك صلاة الفجر في المسجد في ذلك اليوم. ذهب إلى مسجد الشهداء، وكانت تلك الدقائق، هي الحدّ الفاصل مع الموت. يتابع حديثه إلى «الأخبار»: «لا وقت للبكاء يا ابني، إحنا ناس مؤمنين بإنو الأجل هو حارس العمر، انتهى أجل عائلتي فرحلت، وقدري أن أعيش ما تبقى من عمري على ذكراهم، لكنني محظوظ أيضاً، لقد مَنّ الله عليّ بأن أعيش في زمن إساءة وجه إسرائيل، أولادنا أذلّوهم في 7 أكتوبر، هذا الجنون والشراهة في القتل هو سلوك الضبع الذبيح... إسرائيل انتهت يا ولدي... الحياة لكم ولأبنائكم».