رام الله | حملت صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال في كنف التهدئة، رسائلَ أبعد من مجرّد انتزاع حرّية الأسرى بالقوّة، وإرغام إسرائيل على ذلك، وكسْر خطوطها الحمر، وإسقاط أهدافها المعلَنة للحرب. على أن المرحلة الثالثة من الصفقة، أَسقطت أيضاً مزاعم إسرائيل في شأن «سيطرتها» على شمال قطاع غزة؛ إذ انتفت صحّة تلك المزاعم مع إعلان «كتائب القسام» أن تسليم الأسرى سيجري في الشمال. وهكذا، ظهر مقاتلو حركة «حماس» في قلب مدينة غزة التي شهدت معارك ضارية في الأسابيع الماضية، ليسلّموا 13 أسيراً إسرائيلياً، وآخر إسرائيلياً يحمل الجنسية الروسية، و3 أسرى تايلنديين، وسط حضور جماهيري واستعراض للقوّة نفّذته «الكتائب». وأكّدت «القسام»، من خلال ظهور مقاتليها في جيبات عسكرية، أنها لا تزال تتحكّم استخبارياً وجغرافياً بهذه البقعة، وأن عناصرها يستطيعون الظهور كما يريدون، وتأمين تسليم الأسرى باحتياطات أمنية، وأن المقاومة بخير. وأعقبت تسليم الأسرى، جولة لعناصر «الكتائب» في قلب غزة، وسط تكبيرات الجماهير وهتافاتها، ليتأكد أن الدمار والمجازر لم يزيدا أهل غزة إلا تأييداً للمقاومة. ومن جانب آخر، جاءت رسالة «القسام» للردّ على رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، الذي أجرى جولة استعراضية على أطراف شمال غزة، محاولاً بعث رسالة مفادها أن إسرائيل تسيطر على الأرض.في المقابل، أَفرجت سلطات الاحتلال عن 39 طفلاً فلسطينياً، موزّعين على مدن الضفة الغربية بما فيها القدس، إضافةً إلى أسير من قطاع غزة، وسلّمتهم للصليب الأحمر، وسط حضور شعبي فلسطيني واستنفار عسكري إسرائيلي، ترافق مع اقتحام بلدة بيتونيا والاعتداء على الفلسطينيين، واقتحام منازل الأسرى الأطفال في القدس والاعتداء عليهم أيضاً. وإذا كانت «القسام» أرادت التأكيد أنها لا تزال المسيطرة على شمال القطاع، فإن ذلك جاء بعد ساعات من رسالة أخرى وجّهتها، في المرحلة الثانية من التسليم، بينما كان 50 ألف مستوطن يتظاهرون في وسط تل أبيب، حين قرّرت تأجيل تنفيذ هذه المرحلة لساعات، في ما مثّل ضربة قوية لنتنياهو وحكومته، كون الحركة أَثبتت أنها صاحبة القرار، ما دفع الوسطاء المصريين والقطريين إلى التحرّك، والضغط على إسرائيل بإيعاز من الولايات المتحدة لاستكمال مسار الهدنة. ويبدو أن تنفيذ المرحلة الأولى، شجّع عائلات الأسرى الإسرائيليين على مواصلة الضغط على حكومة نتنياهو للإفراج عن كلّ الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة في قطاع غزة، في دلالة على انتصار المعادلة التي حدّدتها الأخيرة.
وهكذا، حمل قرار المقاومة تأخير تنفيذ المرحلة الثانية، دلالات عدّة، أبرزها أنها صاحبة اليد الطولى في الصفقة، خاصة إذا ما جرى التلاعب ببنود الاتفاق، سواء ما يتعلّق منها بهويات الأسرى المحرّرين أو بالمساعدات الإنسانية، وهو ما تسبّب بإرباك الاحتلال وقادته. كذلك، أظهر قرار المقاومة، إسرائيل، بمظهر المهزوم والضعيف أمامها، وهي التي تبحث، منذ 51 يوماً، عن صورة نصر بالقتل أو اختلاق الإنجازات. ووقفت وسائل الإعلام العبرية طويلاً عند تلك الحادثة؛ إذ قالت إن زعيم «حماس» في غزة، يحيى السنوار، «يفعل ما يشاء منذ 7 أكتوبر»، وإن «إسرائيل لا تسيطر على الميدان. بعد 51 يوماً من الحرب، فإن حماس التي كان الهدف هو القضاء عليها، تقرّر ما تريد، وحكومة الحرب والمستوى المهني في إسرائيل، دخلوا إلى كمين يحيى السنوار بأعين مفتوحة، على ما يبدو لأنهم لم يصمدوا أمام الضغط الشعبي، وعلى طول الطريق نسوا أن على أكتافهم مسؤولية إضافية تتعلّق بالأمن»، بحسب «يديعوت أحرونوت».
بالإفراج عن إسراء جعابيص، وشروق دويات، وميسون الجبالي، تكون المقاومة قد نفّذت شروطها في الصفقة


وممّا أسهم أيضاً في تفاقم غضب إسرائيل، المشاهد التي نشرتها المقاومة للحظة الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وبوادر الارتياح التي بدت على ملامح هؤلاء، والتعامل اللطيف الذي حظوا به من قِبَل عناصر المقاومة، وتبادلهم التحيات والابتسامات مع المقاومين، في ما يدلّ على أنهم كانوا يعيشون ظروفاً مريحة في غزة، وأنهم لقوا معاملة كريمة وأخلاقية، وهو ما خالف رواية الاحتلال التي حاول رسمها عن المقاومة، وأدّى إلى ضرب كل الاحتياطات والاستعدادات التي اتّخذتها أجهزته الأمنية والاستخباراتية لمنع الأسرى من الإدلاء بأيّ تصريحات إعلامية عن ظروف اعتقالهم. وذكرت صحيفة «معاريف» أن مسؤولين إسرائيليين انتقدوا، مساء السبت، سلوك إسرائيل منذ بدء وقف إطلاق النار. وبحسبهم، فإن الأزمة تثبت أن «حماس» هي التي «تحدّد وتيرة الأحداث، وتضطرّ إسرائيل للتنفيذ، حتى عندما يتمّ التحرير كما هو مخطّط له»، فيما ذكرت صحيفة «هآرتس» أن الحركة «تمارس حرباً نفسية ضمن مسار صفقة تبادل الأسرى». وعلى رغم التأخّر في إتمام العملية، احتشد آلاف الفلسطينيين حتى الساعات الأولى من فجر الأحد في مدينتَي البيرة والقدس والمدن الأخرى في الضفة لاستقبال الأسرى المحرّرين.
وعملت قوات الاحتلال على التنغيص على أفراد عائلات الأسرى الفلسطينيين، من خلال قمعهم والاعتداء على الأطقم الصحافية والطبية الموجودة عند بوابة وأطراف سجن «عوفر» خلال انتظارهم الإفراج عن الأسرى، وأجبرتهم على المغادرة، مستخدمة قنابل الغاز المُسيّل للدموع والرصاص المطاطي. واتّجهت أنظار الفلسطينيين، كذلك، إلى مدينة القدس المحتلّة، التي شهدت تحرير 5 أسيرات، أبرزهن الأسيرة إسراء جعابيص، التي كان الفلسطينيون ينتظرون لحظة الإفراج عنها كل دقيقة، نظراً إلى وضعها الصحي الخاص، الذي تعاني منه بسبب إصابتها لحظة إطلاق النار على مركبتها وانفجارها بها وقت اعتقالها.
وشدّدت قوات الاحتلال من تأهّبها أمام منزل عائلة جعابيص قبل الإفراج عنها، حيث اقتحمته، وقامت بإخراج كل مَن فيه، على رغم أن الحاضرين كانوا من أقاربها. وقالت إسراء، في تصريحات صحافية عقب الإفراج عنها: «نخجل أن نفرح وفلسطين كلّها جريحة»، مشيرةً إلى ما تعرّضت له الأسيرات من تنكيل واعتداء وضرب، وتحديداً الأسيرات الصغيرات في السن. وقالت، في لقاء مع «مركز معلومات وادي حلوة» المقدسي: «لَمّا عرفت عن الصفقة ما عرفت شو هو شعوري، صرت أبكي، إحنا بنفرح بخجل وبنكتم هذه الفرحة، وضع الأسرى بالسجون شديد القسوة... ووضع السجون سيّئ جدّاً. ممنوع نشوف المحامين... تمّت مصادرة أغراضنا وفُرضت علينا الغرامات... صودرت ملابسنا وأدوات المطبخ... ما بعرف الشعور اللي أنا فيه بس حاسة حالي بحِلِم... بدي إرجع أتعرف على إبني معتصم من أول وجديد، لأني تركته طفل عمره 7 سنوات، واليوم هو 15 سنة، وتغيّر كليّاً عن العقلية اللي تركته فيها».
وبالإفراج عن إسراء جعابيص، وشروق دويات، وميسون الجبالي، تكون المقاومة قد نفّذت شروطها في الصفقة، وهي الإفراج عن الأسيرات الأعلى حكماً والأقدم في السجون، إذ تُعدّ الجبالي الأقدم، بينما تُعدّ دويات صاحبة الحكم الأعلى بـ16 عاماً. وقالت دويات بعد الإفراج عنها، إنها تعيش فرحاً كبيراً ممزوجاً بالألم، مشيرةً إلى أن السجون تحوّلت في الفترة الأخيرة إلى أمر لا يطاق في ظلّ انتهاكات الاحتلال وتنكيله عبر القمع والتجويع وتكديس الأسيرات، معربةً عن مخاوفها تجاه الأسيرات اللواتي بقين في السجن، مضيفة: «شعور ممزوج بالألم والفرح، بس إحنا شعب بنحب الفرح، ومن الألم نصنع المعجزات والتحدّي والإصرار. إن شاء الله الحرّية لكلّ الأسرى. ظلّيت قوية عشان أهلي وأمي وأبوي وخواتي... رسالتي للأسيرات كنَّ قويات باب السجن ما بسكر على حدا، وللأسرى بقول ظلّوا صامدين وثابتين، حرّيتكم قريبة إن شاء الله، حاسة حالي بحِلِم».