لم تفلح أربعة أيام من العمل المتواصل، في إعادة تشغيل مستشفى «الإندونيسي» في منطقة تل الزعتر شمال قطاع غزة، وهو المستشفى المركزي الذي يقدّم الخدمة لأحياء شمال وادي غزة كافة، بعدما خرج مستشفى «الشفاء» عن العمل. وكان طاول «الإندونيسي» دمارٌ فاق ما قدّره الطاقم الفني في اليوم الأول لوقف إطلاق النار؛ إذ خلص هذا الأخير آنذاك إلى وجود إمكانية للصيانة السريعة، لكن تبيّن أن خطوط الكهرباء، وشبكة الغاز، وعدداً كبيراً من الأجهزة الطبّية المهمّة، تمّ تدميرها بشكل كلّي. وخلال اليومَين الماضيين، تطوّع أكثر من مئتَي شاب لإجراء عملية تنظيف وتعقيم كلية للمستشفى، بينما عمل فريق آخر، طوال يومَين، على دفن جثامين أكثر من 70 شهيداً كانت قد تحلّلت جثامينهم في جنبات المرفق الطبّي. وسحب الأهالي، بدورهم، ما تبقّى من وقود السولار من السيارات المتروكة على الطرق، وشغّلوا جرّافة لإزالة أكوام الرمال والخراب من طريق سيارات الإسعاف.غير أن كلّ ذلك، اصطدم بجدار الأزمة الكبرى؛ فالطاقم الطبي اضطرّ لمرافقة أكثر من 200 جريح إلى جنوب قطاع غزة، ولم يستطع العودة مجدّداً، بعدما اعتقلت سلطات الاحتلال العشرات من الأطباء وفنّيّي الأشعة على حاجز صلاح الدين الفاصل بين شطرَي القطاع. ويخشى مدير مستشفى «العودة»، أحمد مهنا، من أن تعود «مناطق شمال وادي غزة إلى جولة قتال جديدة، بلا منظومة صحية»، لافتاً، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «مستشفى العودة الذي دُكَّ بقذائف المدفعية في اليوم الذي سبق وقف إطلاق النار، واستُشهد ثلاثة من الأطباء فيه، هو المؤسّسة الصحية الوحيدة التي تعمل، وهو مهدّد بالقصف مجدّداً. كما أن مستشفى كمال عدوان مكتظّ بالمئات من الجرحى، ولا متّسع فيه لجريح واحد». ويتابع مهنا أنه «حتى لو استطعنا مواصلة العمل في وقت الحرب، فليس لدينا أيّ مخزون من الوقود والمستهلكات الطبية، وليس لدينا أوكسيجين لإجراء العمليات الخطيرة. ورغم ذلك، نحن جاهزون للمواصلة، حتى لو هُدم المستشفى على رؤوسنا ورؤوس مرضانا».
مستشفى كمال عدوان مكتظّ بالمئات من الجرحى، ولا متّسع فيه لجريح واحد


وفي مستشفى كمال عدوان، يبدو الحال بائساً للغاية، حيث يفترش المئات من الجرحى الأرض، ويحيط بهم الآلاف من النازحين، في الممرّات. وعلى الدرج الذي يقود إلى الأقسام العلوية، وسط الزحام، التقت «الأخبار» بأحد الأطباء، وهو عيد صباح، الذي لم يغادر المستشفى منذ بدء الحرب. يقول عيد إن «مستشفى كمال عدوان منهار تماماً، حيث لم تصل أيّ مساعدات طبّية منذ بدء الهدنة الإنسانية، ونفدت كمّيات الوقود تماماً قبل وقف إطلاق النار بخمسة أيام. ويزيد حلول الشتاء الطين بِلّة، حيث تغيب الشمس، ولا تعمل خلايا الطاقة الشمسية مطلقاً»، ويضيف: «نحن نعمل في ظروف العدم. بصراحة، نقوم بأيّ جهد طبي لإنقاذ الأرواح. لدينا المئات من الجرحى المبتورة أطرافهم، وجروحهم متعفّنة، وتتطلّب كلّ حالة لتطهير الجرح أكثر من ثلاث ساعات متواصلة من العمل، وهذا وقت طويل بالنظر إلى محدودية طاقم التمريض وكثرة المرضى الذين ينتظرون التغيير للجرح بشكل يومي».
على باب مستشفى كمال عدوان، يمكن مشاهدة العشرات من الجرحى المبتورة أطرافهم، وهم يستقلّون عربات تجرّها الدواب، متّجهين إلى مراكز الإيواء. يقول الجريح محمود، لـ «الأخبار»، إن «البقاء في المستشفى لم يعُد مجدياً. لا رعاية طبية ولا أدوية ولا مسكّنات: أنا هارب من الزحام، من الوجع الذي يتسبّب به دوس النازحين على قدمَيَّ المبتورتين بالخطأ».
وفي باحة المستشفى الذي أُطلق عليه هذا الاسم مجازاً، إذ هو في الأصل مركز صحي تمّ تخصيصه لحالات الولادة وعلاج الأطفال، لكن الحاجة حوّلته إلى المستشفى الرئيسيّ في غزة وشمالها، يتجمّع المئات من النازحين تحت الخيام وقطع النايلون. تهطل الأمطار بغزارة، ويحاول الرجال حماية أطفالهم من مزاريب المياه التي تغرقهم. في خيمة، أو ما يشبه الخيمة، ثمّة مجموعة من الجرحى أيضاً، أجبرتهم إدارة المستشفى على المغادرة، لأن حالتهم أضحت جيدة. يقول أحدهم: «خرجنا من المبنى إلى الحديقة. منازلنا مدمّرة. وهنا، يمكن أن نحظى بحبة مسكّن تعيننا على النوم ليلاً».