أُطلق عليه الرصاص، دُعس وضُرب واعتُقل، وحُكم عليه بالسجن 12 عاماً. بات أحمد مناصرة رمزاً للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ولكثرة جرائم العدو، تولد الرموز بشكلٍ دوري. ولد أحمد مناصرة في 22 كانون الثاني (يناير) 2002 في بيت حنينا في القدس المحتلة، واعتُقل في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2015. كان يتجوّل يومها برفقة ابن عمه حسن مناصرة حين هاجمتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي بالرصاص والدهس، زاعمةً أنهما كانا ينويان تنفيذ عملية طعن في القدس، ما أدى إلى استشهاد حسن وإصابة أحمد، الذي نُقل مكبلاً وهو ينزف بين الحياة والموت إلى المستشفى، وقد ظن كثيرون يومها أنه استُشهد، ليتبين أنه لا يزال على قيد الحياة.

أكمل العدو إجرامه، بتسريب مقطع فيديو للتحقيق القاسي والمرعب معه، إذ ظهر ابن الـ 13 عاماً خائفاً يرتجف، ودموعه تسبق أجوبته، التي اختُصرت بـ «مش متأكد» و«مش متذكر».
«مسك ابني إصبعي وظل يقبّله وهو يرتجف ويبكي بشدة... فرحت كثيراً لأني لمست إصبعه بعد حرمان طويل... كان ابني كثير التأثر بالأمر»، تقول والدة أحمد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، عندما تمكّن أحمد للمرة الأولى منذ سبع سنوات من لمس يد والدته، بعدما سمح له القاضي الإسرائيلي بذلك.
يُعاني أحمد مناصرة اليوم من تورّم في الجمجمة، نتيجة كسر بسبب الضرب المبرح الذي تعرض له عند اعتقاله، إضافة إلى ما عاناه من تعذيب قاسٍ وترهيب نفسي في الاعتقال، وأسلوب التحقيق الطويل، والحرمان من النوم والراحة، ما سبّب له صداعاً شديداً وضيقاً في التنفس وآلاماً مزمنة.
تعزل إدارة السجون الإسرائيلية مناصرة لفترات طويلة، وتحرمه من العلاج المناسب. في زيارة لاختصاصية نفسية لأحمد العام الماضي، تبين أنّه يعاني من اضطرابات نفسية، فيما الأدوية المخدرة والمنومة التي يتناولها غير مناسبة وتفاقم من حالته، وهو بحاجة إلى إنهاء العزل، والحصول على حاضنة اجتماعية في غرف السجن أو في الفضاء الخارجي. لكن سلطات الاحتلال لم تتجاوب، عازيةً الأمر بأنها تحميه وباقي الأسرى بسبب تدهور حالته النفسية، وتبقيه في السجن الانفرادي، حيث يتألم بمفرده ويتكلم مع نفسه ويعيش حالة من التخيّلات والأوهام.
فور الإعلان عن عملية تبادل أسرى بين «حماس» والاحتلال، انتشرت صورة لأحمد مناصرة عند اعتقاله وصورته اليوم. الشاب الذي كبر في سجون الاحتلال، يظهر في أجدد صوره بملامح غضب، خوف، لمن سلبت منه حريته، بعدما سرقت منه أرضه. تظهر الآلام والصدمات النفسية في عيون ضحاياها، في قسوة نظراتهم، في حزن لا يمكن إخفاؤه مهما علت الضحكات. ينظر بألم ولوم تجاه العالم، والظلم، والاستقواء على طفل، على استغلال ضعف فرد أمام حقد جيش ومستوطنين.
في فيديو آخر، يُسأل أحمد عن رغبته بالخروج من المعتقل، يجيب «آه»، ويسأل عن عصافيره، ويشتاق لأهله. لم يعد ذاك الطفل في الـ 13 من عمره. خلال سنوات اعتقاله، مورست بحقه شتى أنواع التعذيب النفسي التي كانت تستخدم على مرضى أميركيين وكنديين لإعادة برمجة أدمغتهم، ضمن برنامج «ام كي الترا»، الذي طوّره الطبيب النفسي الإسكتلندي دونالد إوين كاميرون، الذي استغلّ بدوره مرضاه وضعفهم، لبسط سلطته العلمية على أدمغتهم، وبالتالي حياتهم. كان المرضى أول الضحايا، وأحمد أحدثهم..
أجرى كاميرون «تجارب مونتريال» في «معهد آلان التذكاري» في كندا أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وهي سلسلة من تجارب غسيل الدماغ، تحولت إلى جزء من مشروع أكبر لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، واعتبرت بمثابة سلاح عسكري محتمل خلال الحرب الباردة.
كانت البداية في أوائل خمسينيات القرن الماضي، في محاولة وكالة الاستخبارات الأميركية السيطرة على العقل البشري لاعتقادها بأنّ للسوفيات القدرة والتقنيات للتحكم بالعقل، بعدما استطاعوا أخذ اعترافات من جنود كنديين، عبر التلاعب بعقولهم عبر العزل وحرمانهم من حواسهم. عقد الأميركيون العزم على مواكبة سباق التسلح، وبدأ الباحثون في تجربة أساليب الاستجواب واستخدام المؤثرات العقلية، التي سيُصنَّف الكثير منها لاحقاً على أنّها أداة تعذيب. بعد بحث مكثّف في تقنيات التحكم بالعقل، تمت الموافقة عام 1953 على مشروع «ام كي الترا» الذي استمر حتى عام 1963.
كان هدف المشروع التحكم بإعادة برمجة العقل البشري، رغم أنّ أبحاث كاميرون بدأت بهدف علاج بعض الاضطرابات النفسية، كـ «انفصام الشخصية»، إلا أنه كان سعيداً بفكرة مناهضته للشيوعية، وسخّر مرضاه كجزء من الجهد الذي بُذل أثناء الحرب الباردة، حيث قارنهم بسجناء الحرب، وكانت أساليبه تهدف إلى تحطيم الجنود الأسرى ومنع مقاومتهم، والتقويض الفعلي للقدرة على المقاومة، مشيراً إلى أنّ انهيار الفرد تحت ضغط الاستجواب المستمر موازٍ لانهيار أسرى الحرب أثناء التحقيق. يوصف كاميرون بالرجل الذي «باع روحه» لوكالة الاستخبارات المركزية ودمّر حياة المرضى الأصحاء عن عمد.
رفض كاميرون نظرية سيغموند فرويد المعيارية، التي تعتمد على «المعالجة بالكلام» لفهم الأسباب الجذرية للاضطراب النفسي، ولجأ إلى «القيادة النفسية»، ليس بهدف معالجة مرضاه بل للتحكم بهم، وتلقينهم سلوكيات جديدة صحية. جرى ذلك عبر الدخول إلى عقولهم وكسر النمط السلوكي، لإعادة الذهن إلى المرحلة التي كان فيها عند الولادة. واعتقد كاميرون أنه يمكن الوصول إلى تلك المرحلة عبر مهاجمة الدماغ دفعة واحدة للعبث بوظائفه الطبيعية. أراد تدمير كل شيء وبلوغ الصفحة البيضاء الطاهرة.
أثناء المشروع، استخدمَ أساليب عدة منها المخدرات والتنويم المغناطيسي وأجهزة كشف الكذب، والإشعاع، ومجموعة متنوعة من الأدوية والسموم والمواد الكيميائية، والصدمات الكهربائية، والعزل الانفرادي. اعتمدت هذه التجارب على مجموعة من الأشخاص الخاضعين للاختبار، بعضهم تطوّع بحرية، وبعضهم بالإكراه، وبعضهم لم يكن لديهم أي فكرة على الإطلاق عن مشاركتهم في برنامج بحثي دفاعي شامل. كانت الفئات الأكثر ضعفاً ضحية هذا البرنامج، من ذوي الاحتياجات الخاصة في مدارس حكومية، والجنود، والأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية، والسجناء الذين كانوا على استعداد لإعطاء الموافقة مقابل وقت إضافي للترفيه أو تخفيف الأحكام.
أدت هذه التجارب إلى أضرار دائمة في دماغ المرضى، إذ عانوا من فقدان الذاكرة، وأعراض طفولية مثل مصّ الأصابع، والتقوقع في وضعية الجنين، والاضطرار لإطعامهم بالملعقة، ومطالبتهم بذويهم، وفقدان شبه كامل للذاكرة والارتباك، وسلس البول، وظهور حالات من الضياع الشديد والهلوسة، وانخفاض موقت للفعالية الفكرية خلال الحرمان الحسي وبعده مباشرةً. كذلك، خسر المرضى تدريجاً قدرتهم على الكلام والمشي. عادوا إلى المرحلة الأولى من حياتهم، إلى فراغ الطفل في جسد ناضج. خسروا تاريخهم وتجاربهم ومخزونهم البشري.
خلال الخمسينيات، شرع أستاذ علم النفس في جامعة «ماكجيل» في مونتريال دونالد أو. هيب، وهو ناقد لاذع لكاميرون، في دراسة ترصد تأثير العزلة الحسية على الإدراك البشري. وخلص إلى أن السجناء المحتجزين في الحبس الانفرادي، ظهرت عليهم علامات اليأس، والارتباك، والهلوسة، إضافةً إلى الآثار العميقة للحبس الشديد. تجاوزت تجارب هيب مستوى العزلة التي يعيشها السجناء عادةً في الحبس الانفرادي، وعرض على طلاب الدراسات العليا الذكور 20 دولاراً يومياً للبقاء في غرف صغيرة، تحتوي فقط على سرير.
وصف دونالد إوين كاميرون بالرجل الذي «باع روحه» لوكالة الاستخبارات المركزية ودمّر حياة المرضى الأصحّاء عن عمد

لم تصمد الغالبية أكثر من بضعة أيام في عزلة. في تلك المدة، لم يتمكنوا من التفكير بوضوح في أي شيء لبعض الوقت. أظهرت سلسلة من الاختبارات المعرفية أن القدرات العقلية للمتطوعين ضعفت بشكلٍ موقت، إذ تم تشغيل أشرطة تتحدث عن وجود الأشباح والأرواح الشريرة أثناء عزلتهم. وعند مقابلتهم لاحقاً، اتّضح أنّهم باتوا يصدقون هذه المعتقدات. كما أظهروا أداءً سيئاً في مهام المدرسة الابتدائية، التي تتضمن العمليات الحسابية البسيطة، وربط الكلمات، والتعرف إلى الأنماط. وعانوا من القلق الشديد والاستجابات العاطفية الطفولية والهلوسة الواضحة.
لم تكن هلوساتهم بصرية فقط، فقد سمع أحد المتطوعين بشكل متكرر تشغيل صندوق الموسيقى، وسمع آخر جوقة كاملة ترافق رؤيته لشروق الشمس فوق الكنيسة.
هناك حتماً فرق كبير بين العزلة الطوعية، مهما كانت متطرّفة، والوضع الذي يجد فيه آلاف السجناء الأسرى أنفسهم اليوم داخل زنازين لفترات طويلة من الزمن. يستخدم الاحتلال الإسرائيلي تكتيكات التعذيب هذه في سجونه، وكان قد استخدمها على الأسرى العراقيين في «سجن أبو غريب»، كما قُمع عبرها المعارضون لتطبيق سياسات السوق الحرة لأفكار «مدرسة شيكاغو» في الأوروغواي والبرازيل وتشيلي والأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي.
قاوم السجناء هذه التجارب، رغم محاولات حرمانهم من ذواتهم، وإعادتهم إلى مرحلة الطفولة وفقدان إحساسهم بالمكان والزمان. بقوا على اتصال بالعالم الخارجي عبر مراقبة أصوات العصافير لمعرفة بداية اليوم الجديد. لكن لا رفيق زنزانة لأحمد مناصرة يطبطب له، يحلمان سوية بحرية الغد، بعملية تبادل أو التخطيط سويةً لعملية جديدة للمقاومة. أحمد مناصرة بمفرده، لا اتصال مع العالم الخارجي، هو مع أفكاره، وابن العمّ الذي استُشهد أمامه، وساعات التعذيب وأيام العزل، والأهل البعيدين، والمستقبل المجهول، والواقع المسلوب، والأرض المباحة لشتى أنواع القهر والعذاب.