رام الله | منذ معركة «سيف القدس» عام 2021، تتصدّر محافظة جنين المشهدَ المقاوم في الضفة الغربية المحتلّة، حتى بات يمكن القول إنها بعثت الحياة في المقاومة المسلّحة نتيجة نماذج كثيرة صدّرتها يُبنى عليها، لعلّ أبرزها «نفق الحرية»، إضافةً إلى عمليات إطلاق النار الفدائية في الداخل المحتلّ، وتشكيل «كتيبة جنين»، كما صناعة وتطوير العبوات الناسفة. وعلى هذه الخلفية، لجأت إسرائيل، على جري عادتها، إلى الخيار العسكري لمواجهة حالة المقاومة المتصاعدة في جنين، مطلقةً من أجل احتوائها عملية «كاسر الأمواج» التي باءت بالفشل، لتعقب ذلك اجتياحات وعمليات اقتحام واسعة تُعَدّ الأوسع منذ «انتفاضة الأقصى»، حتّى بات لا يمرّ يومان أو ثلاثة إلّا وتتعرّض فيه المدينة لعملية عسكرية كبيرة، يشكّل الطيران - حديثاً - أحد الأسلحة المعتمَدة فيها.ونظراً إلى فشل الخيار العسكري للاحتلال في القضاء على المقاومة في جنين، صار واضحاً اعتماد جيشه على خيارات أخرى لتحقيق أهدافه، على رأسها خنق المدينة اقتصادياً، وذلك من خلال تدمير بنيتها التحتية، وتكبيدها خسائر هائلة، في محاولة لعزلها عن محيطها الفلسطيني، سواء في الضفة الغربية أو الداخل المحتلّ، علماً أن جنين تُعدّ السوق الأولى لملايين المتسوّقين سنوياً. ولِفهم هذا السياق بصورة أدقّ، تَجدر العودة إلى ما قبل عام 2022، عندما شهدت المدينة طفرة اقتصادية كبيرة، على المستويات: التجاري والزراعي والصناعي، نظراً إلى جملة أسباب، أهمّها وجود توجّه سياسي لدى السلطة الفلسطينية لدعم تلك الطفرة، فضلاً عن منْح الاحتلال تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، تمثّلت في تيسير دخول الزوار والمتسوّقين إلى المدينة، كما السماح لأعداد كبيرة من أهلها بالعمل في الداخل، ومنح بطاقات للتجّار، في ما انعكس ارتفاعاً في القدرة الشرائية لدى المواطنين، وأيضاً في الاستثمار في مختلف الأنشطة الاقتصادية. ولكن كلّ ما تقدّم، كان هدفه سياسياً، وهو خلق حالة رخاء بديلة تشغل الناس عن القضية الوطنية.
وبالانتقال إلى العامَين الماضيَين، يتبيّن أن جيش الاحتلال حاول وضع معادلة مقايضة واضحة في هذا السياق، وذلك عبر بيان رسمي ابتزّ فيه سكان جنين بالقول: «إمّا الاقتصاد وإمّا المخربون»، مشيراً إلى أن حاجز الجلمة الذي يفصل المدينة عن الأراضي المحتلّة عام 1948، لن يُعاد فتحه طالما استمرّت عمليات إطلاق النار عليه من جانب المقاومين، علماً أنه يُعدّ شريان الحياة لجنين. وعموماً، تعتمد المحافظة الواقعة شمال الضفة، بشكل أساسي، على العلاقة التجارية مع الداخل المحتلّ، ما يعني أن إغلاق «الجلمة» يضرّ كثيراً بالتجار وبمعاش الناس. ولتوضيح هذه الحالة، يشار إلى ما كشفته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في تشرين الثاني الجاري، من خطّة للقضاء على المقاومة في جنين، ركّز الجزء الأساسي منها على «فرض قيود على عرب الداخل تمنعهم من الدخول إلى جنين من أجل العلاجات والتسوّق، وتقييد خروج رجال الأعمال الفلسطينيين من جنين إلى إسرائيل، وهذا في حدّ ذاته ضربة للاقتصاد بالنسبة إلى معظم سكان المدينة». وقالت الصحيفة إن «الضغط الاقتصادي ستتمّ ترجمته في النهاية بضغط عائلات المقاومين على أبنائهم وتحييدهم عن تنفيذ عمليات داخل إسرائيل أو مواجهة القوات الإسرائيلية»، مع عدم إسقاط أسلوب «الجزرة»، من خلال مواصلة إسرائيل السماح للعمّال الفلسطينيين من منطقة جنين وشمال الضفة، بالعمل في الداخل المحتلّ، من أجل تحسين الضرر الذي لحق بحياة مئات آلاف الفلسطينيين من أصحاب الدخول المنخفضة.
تراجع أداء 85% من المنشآت الاقتصادية العاملة في جنين نتيجة الاجتياحات والاقتحامات المستمرّة التي ينفّذها الاحتلال


وفي كلّ حرب تشنّها، تعتمد إسرائيل في عقيدتها العسكرية على ضرب البيئة الشعبية والحاضنة الاجتماعية للمقاومة، وهو ما اتّبعته في جنين منذ عامين، وفي العدوان الأخير على غزة من خلال استهداف المدنيين والبنية التحتية، في محاولة لتأليب المواطنين على المقاومة، وتصوير الأخيرة على أنها «نقيضٌ لهم»، وأنها «العائق» أمام تطوّر مستوى حياتهم، فضلاً عن تأمين متطلبات معيشتهم، وبالتالي تثبيت الفكرة القائلة إن مَن يجرؤ على مقاومة إسرائيل سيدفع الثمن شخصياً وعلى مستوى عائلته وبلدته، ومن ينحّي نفسه جانباً سيحصل على «امتيازات اقتصادية على مستوى العمل والحركة».
وفيما يعرف الفلسطينيون هذه «السالفة» جيداً، لجأت إسرائيل إلى معاقبة الجميع، وهو ما يفسّر تعمّدها تنفيذ التدمير الكلّي في كلّ عملية تقوم بها في شمال الضفة الغربية، وتحديداً في جنين: من تجريف للطرق، وتدمير للبنية التحتية والخدمات، وتهشيم للممتلكات الشخصية من منازل ومركبات ومحالّ تجارية، إلى جانب فرض حصار على القرى والبلدات، وهو ما كبّد (الاقتصاد) «خسائر بملايين الشواكل في مختلف القطاعات»، وفق وزارة الاقتصاد الفلسطينية، والتي أشارت إلى أن العديد من المنشآت الاقتصادية اضطرّت إلى «تقليص عامليها أو الإغلاق لفترات طويلة نتيجة الاقتحامات المتكرّرة للمدينة، وصعوبة توزيع البضائع، وتراجع الحركة الشرائية نتيجة الإجراءات التعسفية والحواجز التي يفرضها الاحتلال بين المدن». وبحسب «غرفة تجارة وصناعة جنين»، سجّلت الخسائر «24 مليون دولار في المنشآت الاقتصادية التي تضرّرت بشكل كبير نتيجة إغلاق حاجز الجلمة»، بينما قالت بلدية جنين إن الاحتلال «دمّر البنية التحتية بشكل كبير أدّى إلى تجريف الطرق وإتلاف شبكات المياه والصرف الصحي»، مقدّرة هذه الخسائر بـ 5 ملايين دولار، ومشيرة إلى أن كلفتها تفوق الإمكانات.
هكذا، تبدو جنين صورة مصغرّة عن واقع الضفة الغربية، إذ تحتضن الأولى نحو 13 ألف منشأة صناعية، تشكل 13.3% من المصانع العاملة في محافظة جنين، و59.2% من المنشآت التجارية (جملة وتجزئة)، و27% تتبع لقطاع الخدمات، وفق وزارة الاقتصاد، التي كشفت بياناتها، أول من أمس، تراجع أداء 85% من المنشآت الاقتصادية نتيجة الاجتياحات والاقتحامات المستمرّة التي ينفّذها الاحتلال الإسرائيلي، فيما يبلغ متوسّط العاملين في هذه المنشآت، 41% من الفئة العاملة في المدينة. وأفادت بيانات الوزارة بأن أغلب المصانع شهدت تراجعاً في أيام العمل الشهرية بمتوسط يتراوح بين 36% و42%، فيما تدهورت الطاقة الإنتاجية إلى 91% منها بمتوسط 43%. وبحسب «المرصد الاقتصادي»، فإن 77% من المنشآت الصناعية تعاني صعوبة في التنقل وتوزيع البضائع بين المدن، نتيجة الإغلاقات التي ينفّذها الاحتلال، في وقت اضطرّت فيه 16% منها إلى الإغلاق بشكل كامل أو جزئي، علاوة على تراجع المبيعات الشهرية لـ 97% منها.