اقترنت «الهدنة المؤقّتة» في غزة، منذ الساعات الأولى للإعلان عنها، بالنقاشات المستمرّة حول انعكاساتها على احتمالات استئناف العمليات العسكرية في القطاع. وفيما جزم البعض، انطلاقاً من اقتصار الهدنة في مرحلتها الأولى على فترة محدَّدة بأربعة أيام (قبل أن يتمّ تمديدها ليومَين إضافيَّين)، بحتمية عودة إسرائيل إلى استكمال عدوانها على الفلسطينيين، بنى آخرون على الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الأراضي المحتلّة، ضمن جولة إقليمية من المتوقّع أن تقوده أيضاً إلى الإمارات، حيث سيشارك في مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ (COP28)، باعتبارها مؤشّراً جدّياً إلى وجود توجّه أميركي، بالتعاون مع أطراف إقليمية، كقطر، بصفتها الوسيط الأساسي في المفاوضات غير المباشرة بين «حماس» وإسرائيل، لتأييد وقف الحرب في غزة.
جهود الوساطة
أشارت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أن تمديد «الهدنة الإنسانية» في غزة، في موازاة تبادل المزيد من الأسرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أسهم في «دفع الوسطاء الدوليين نحو السعي إلى إطالة أمد وقف الصراع بين الجانبَين لفترات أطول»، مضيفة أنّ توجّه كبار المسؤولين الأميركيين، ومن بينهم وزير الخارجية، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية»، وليام بيرنز، إلى المنطقة، جاء بدافع «البناء على تمديد الهدنة بغية تأسيس واقع (ميداني) أكثر استدامة». وبحسب الصحيفة، فإن اجتماع بيرنز مع رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة، بحضور رئيس جهاز «الموساد» الإسرائيلي، ديفيد برنياع، ومدير المخابرات المصرية، عباس كامل، بحث سبل «تفادي استئناف الأعمال العدائية» بين فصائل المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية، و»التوسّط في شأن صفقة تشمل ضمان أيام أخرى إضافية من الهدوء (في الميدان)، والبحث في الإفراج ليس فقط عن الأسرى والمحتجزين من النساء والأطفال، بل كذلك الرجال والعسكريين» ممَّن لا يزالون في قبضة المقاومة الفلسطينية. وعلى رغم إقرارها بتزايد الضغوط الدولية على حكومة بنيامين نتنياهو، لوقف إطلاق النار بشكل شامل ودائم في غزة، لم تستبعد الصحيفة الأميركية عودة الأعمال القتالية هناك، على وقع ضغوط تمارسها إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على إسرائيل، لحثّها على شنّ عمليتها العسكرية بصورة «أكثر دقّة»، في حال رغبت في مواصلة حربها ضدّ فصائل المقاومة الفلسطينية.
موافقة إسرائيل على تمديد «اتفاق الهدنة المؤقّتة» في غزة، فاقمت من «حالة عدم اليقين لديها»


وفي هذا الصدد، نقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي تشديده على ضرورة وجود أطر محدّدة للنشاط العسكري الإسرائيلي، وعلى أنّه «من الأهمية في مكان» أن يتمّ الهجوم الذي قالت إسرائيل إنها تتحضّر لبدئه في جنوب غزة، بعد انقضاء أمد الهدنة، «بطريقة مناسبة، على نحو لا يتسبّب بنزوح كبير للمدنيين (الفلسطينيين)»، مع إشارته إلى أنّ «المواقع التي سيصار إلى توفير الحماية لها، في حال استؤنفت العمليات العسكرية في جنوب القطاع، يجب أن تشمل المنشآت والملاجئ التابعة للأمم المتحدة، وبنى تحتية مدنية». وفي الاتجاه نفسه، كشف مسؤول إسرائيلي، للصحيفة، أن حكومته تتوقّع أن يتمّ الاتفاق على تمديد آخر للهدنة، التي من المقرّر أن تنتهي في وقت مبكر من (اليوم) الخميس، لمدّة يومين أو ثلاثة، معقّباً بالقول: «بعد ذلك، إمّا أن نستأنف العمليات العسكرية في غزة، أو نبرم اتفاقاً للمضيّ قدماً في هذا المسار (تبادل الأسرى)». وعلى رغم تأكيده نيّة تل أبيب تبادل المزيد من الأسرى مع حركة «حماس»، وفق الصيغة المتَّفق عليها بين الجانبَين، لفت المسؤول الإسرائيلي، الذي رفض الكشف عن اسمه، في حديثه إلى الصحيفة، إلى أن عمليات التبادل المشار إليها «لن ترسي، في أيّ حال من الأحوال، وقفاً دائماً لإطلاق النار» في غزة.
ووفق مصادر غربية مطّلعة على مسار المفاوضات في ملفّ الأسرى، فإن الوسطاء المولجين بهذا الملفّ، وممَّن يعود لهم الفضل في إقرار «الهدنة» السارية في قطاع غزة، يراهنون على أن تؤدي «الصيغة القائمة حالياً، إلى إعطاء المزيد من الزخم، للجهود الرامية إلى منع استئناف الأعمال العدائية، وتهيئة الظروف الملائمة لإجراء مناقشات طويلة المدى» حول مستقبل الوضع في غزة. وبحسب المصادر نفسها، فإنّ المفاوضات «ستصبح أكثر صعوبة، فور الانتهاء من الإفراج عن جميع الرهائن المدنيين، وبدء التفاوض على إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين الذين تمّ أسرهم في أحداث السابع من تشرين الأول، في ظلّ توقّعات بانتقال حماس إلى المطالبة بالإفراج عن المزيد من المحتجزين من الأسرى، بخاصّة من القيادات (من ذوي المحكوميات العالية في سجون الاحتلال)، وتغيير الصيغة التبادلية للهدنة (ثلاثة مقابل واحد)».

معضلة مزدوجة تواجهها إسرائيل
بدورها، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ موافقة إسرائيل على تمديد «اتفاق الهدنة المؤقتة» في غزة، فاقمت من «حالة عدم اليقين لديها»، وذلك في معرض التساؤلات المطروحة، سواء لناحية ما إذا كانت ستواصل غزوها للقطاع الفلسطيني المحاصَر، أو لجهة الأسلوب الذي ستتّبعه في حال قرّرت استئناف اجتياحها له، مؤكدة وقوع تل أبيب تحت تأثير ضغوط متعاكسة، ولا سيما من الداخل، إذ إنّ موافقتها على تمديد إضافي للهدنة «تعني عودة المزيد من مواطنيها المحتجزين لدى حماس»، وفي الوقت نفسه ستسفر عن «ارتفاع شعبية حماس في الضفة الغربية التي تحتلّها إسرائيل»، والتي ينحدر منها العديد من الأسرى المحرّرين، مع ما قد يترتّب على هذا من «تفاقم للصراع» بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية، فضلاً عن دخول نتنياهو في صدام (سياسي) مع بعض وزرائه المتطرّفين، ممَّن سبق أن أيّدوا وقف إطلاق النار، مقابل حصولهم على تأكيدات بأن الاجتياح سيُستأنف خلال مهلة قصيرة، وفق «نيويورك تايمز». وتابعت الصحيفة الأميركية أنّه «كلّما طال أمد العمل بالآلية المشار إليها (تمديد وقف إطلاق النار مقابل المضيّ في عملية تبادل الأسرى)، تعاظمت المعضلة التي تواجهها إسرائيل»، موضحة أن «وقف القتال لمدّة طويلة في غزة قد يؤدي إلى إبطاء وتيرة اجتياح إسرائيل للقطاع، ما يزعزع هدفها المعلن هناك، والمتمثّل في إطاحة حكم حماس». ولشرح طبيعة المأزق الإسرائيلي، يوضح المحلّل السياسي في صحيفة «هآرتس» العبرية، آنشيل فيفر، أنّ «البعض في إسرائيل يبدي خشيته من أن يمنح التمديد المطوّل (للهدنة)، حركة حماس، حيّزاً كبيراً من التأثير على الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي»، منبّهاً إلى أن كيان الاحتلال «يواجه معضلة حقيقية» على هذا الصعيد. ويشرح فيفر أن «كلّ عملية إفراج عن أحد الرهائن الإسرائيليين، توفّر لحماس سطوة على مشاعر (الشارع) داخل إسرائيل»، معتبراً أنّه «يتعيّن على إسرائيل، في نهاية المطاف، أن تحدّد خيارها، وما إذا كانت تريد إطلاق سراح المزيد من الرهائن، أو منع حماس من إملاء المزاج العام فيها». وبحسب الصحيفة، «يواجه القادة الإسرائيليون دعوات من الخارج لترسيخ حالة وقف إطلاق النار بصورة دائمة، إلّا أن هؤلاء، يلاقون في الداخل، مطالبات متناقضة، بين مَن يطالب باستئناف القتال وسحق حماس، ومَن يدعو إلى تأمين إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين».