يبدو أن البقاء السياسي لا يزال يشغل عقل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يَظهر أنه وجد في إطالة أمد الحرب، فرصةً للاستمرار على رأس السلطة، على رغم انهيار شعبيته، وشعبية حزبه وائتلافه عموماً، في استطلاعات الرأي التي تنبّأت بخسارة هذا الأخير، في حال أُجريت انتخابات برلمانية هذه الأيام، وذلك في مقابل صعود شعبيّة خصمه، وزير «كابينت الحرب» المُصغّر، زعيم «المعسكر الوطني» بيني غانتس، الذي بات شخصية الإسرائيليين المفضّلة لقيادة الحكومة، فيما بلغ عدد مقاعد حزبه 42، وفق ما أظهرته بعض الاستطلاعات.وعلى رغم ما تحمله تلك الاستطلاعات من دلالات كثيرة، إلّا أن ممّا يجدر التنبّه إليه، هو أنها تجري في ظلّ حالة حرب غير مسبوقة، ترافقها مشاعر غضب ونقمة على نتنياهو خصوصاً، الذي يرفض تحمُّل المسؤولية عن الفشل الذريع في التصدّي لهجوم السابع من أكتوبر، فيما ترى المؤسسات الإسرائيلية كافة أن انشغال ائتلافه بالدفع بمخطّط «الانقلاب القضائي» الذي تسبّب بعاصفة من الاحتجاجات في إسرائيل، كاشفاً عن انقسام عمودي عميق في المجتمع، فضلاً عن سياسة «احتواء حماس» التي اتّبعها، قادا إلى ما حدث. وعليه، فإن الأرقام التي تتزاحم اليوم في واجهة المشهد السياسي الإسرائيلي، ليست غير قابلة للتبدّل، لاسيما أن تاريخ نتنياهو السياسي، على مدار 15 عاماً في السلطة، يُظهر تمسّكه إلى حدّ الاستماتة بالحكم، وتمكّنه في محطّات كثيرة من النجاة من حبل المقصلة الذي التفّ حول عنقه، وفق ما دلّت عليه بوضوح نتائج انتخابات «الكنيست» الأخيرة، نهاية العام الماضي. ولذا، فإن الجازمين بنهايته السياسية يتجاهلون حقيقة أن الحرب لم تنته بعد، وأن نهايتها هي المحدّد الرئيسيّ لبقائه في السلطة من عدمه.
ومع ذلك، يخوض الرجل، هذه الأيام، تجربة فريدة؛ فالراغبون في إطاحته حالياً ليسوا أولئك الذين خرجوا ضدّه منذ سنوات نتيجة سياساته الداخلية، أو نتيجة تهم الفساد وخيانة الأمانة الموجّهة ضدّه فحسب، بل لأنهم يعتبرونه متورّطاً في قضية أمن قومي هي الأقسى في تاريخ إسرائيل، فيما يَنظرون إلى بقائه باعتباره خطراً وجودياً على الدولة، وعلى بقائها نظاماً استعمارياً وأداة تنفيذية لخدمة مصالح الأنظمة الغربية في الشرق الأوسط. وكانت صحيفة «معاريف» كشفت، قبل أيام، نقلاً عن أوساط مقرّبة من نتنياهو، قولها إنه «ثمّة تخوّفات من أن إطالة أمد الهُدنة قد تعرقل استئناف المناورة البرية الواسعة في غزة؛ إذ إنه خلال هدنة كهذه ستتعرّض إسرائيل لضغوط أكبر لإطالة أمد وقف النار والبدء بالبحث في الحلّ سياسي، كنتيجة لمشاهد الدمار الصادمة والتي ستكشف عنها وسائل الإعلام الأجنبية التي ستدخل القطاع خلال وقت الهدنة... وأنه في سيناريو كهذا، قد يستقيل وزيرا مجلس الحرب المُصغّر بيني غانتس، وغادي آيزنكوت، في موازاة خروج تظاهرات تطالب بإطاحة نتنياهو»، الأمر الذي سيدفع الأخير، عمليّاً، إلى «اعتزال الحياة السياسية، ومن ثمّ عقد صفقة مع النيابة العامة بشأن تهم الفساد، وإجراء انتخابات داخل «الليكود» لاختيار مرشّح بديل منه، توازياً مع استمرار الحكومة الحالية». ولفتت هذه الأوساط إلى أنه «تجري دراسة احتمال تنحية نتنياهو»، موضحةً أن «مستقبل الصفقة مع حماس والحرب في غزة سيؤثّر في اتّخاذ القرار. ونتنياهو سيقرّر بموجب التطوّرات والحالة الجماهيرية - السياسية التي ستنشأ».
استئناف إسرائيل الحرب، يتطلّب «ردع» إيران وحزب الله والحؤول دون فتحهما جبهات أخرى


وإذ علّق رئيس الحكومة على تقرير الصحيفة بالقول إن ما ذكرته الأخيرة «لا يوجد له أساس»، فقد تبيّن، بعد يومين من ذلك، أن نتنياهو عقد بالفعل سلسلة لقاءات خاصّة، سعى خلالها إلى ترسيخ مكانته داخل «الليكود». وفي هذا السياق، كشف موقع «واينت» عن مداولات سرّية عُقدت في الأيام الأخيرة داخل الحزب في شأن «اليوم التالي» للحرب، ونقل عن قيادي «ليكودي» قوله إنه «تُدرس إمكانية إطاحة نتنياهو، من خلال تصويت في الهيئة العامة للكنيست على مشروع قانون لنزع الثقة عنه، وطرح اسم عضو كنيست آخر من الليكود ليشكّل حكومة من دون إجراء انتخابات عامة، وإن أحد الأسماء التي طُرحت كان رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، يولي أدلشتاين».
وفي لقاءاته مع أعضاء حزبه، وبينهم كيتي شيطريت، دان إيلوز، حانوخ ميلفيتسكي وبوعاز بيسموت، أبدى نتنياهو قلقه من تنامي الخطاب في شأن استبداله، ورغبته في التأكد من أن أحداً لن ينضمّ إلى حالة التمرّد ضدّه. وخلال هذه اللقاءات، ركّز نتنياهو على مجموعة «كلمات سرية مفتاحية»، من مثل: «أنا الوحيد الذي يمكنه منع دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية بعد الحرب. والأميركيون لم يريدوا دخولنا في حرب برية، وكذلك دخولنا إلى مستشفى الشفاء، وقمنا بالأمرين... فأنا مَن يعرف كيف يتحدّث للرأي العام الأميركي»، مؤكداً أنه «بعد الحرب لست ذاهباً إلى أي مكان، وسأحارب للبقاء في منصبي».
على أيّ حال، فإن بقاء نتنياهو في منصبه مرهون عملياً باستمرار الحرب بعد الهدنة؛ وفي الحالة الراهنة، «لا يوجد ضغط داخلي في إسرائيل لوقف إطلاق نار طويل، أو لتسوية سياسية مع حماس شبيهة بالجولات القتالية السابقة»، وفقاً لما قاله رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، ألوف بن. لكن بن أكّد أن «قرار استئناف الحرب على غزة ليس بيد إسرائيل وحدها، بل متعلّق بدعم أميركي «متعدد الطبقات»، كما يقولون في الجيش الإسرائيلي»، موضحاً أن استئناف إسرائيل الحرب، يتطلّب «ردع» إيران وحزب الله والحؤول دون فتحهما جبهات أخرى، وذلك من خلال القطع الحربية المنتشرة في المتوسط، والقواعد الأميركية في المنطقة، فضلاً عن الفيتو الأميركي لمنع قرار في الأمم المتحدة يقضي بوقف إطلاق النار»، مستنتجاً أن «القرار الإسرائيلي باستئناف الحرب، وبشكل خاص توسيعها ضدّ حزب الله، سيكون خاضعاً لموافقة أو على الأقلّ تفهّم أميركي».
واعتبر أن «بايدن سيوافق على فتح مرحلة ثانية من الحرب على غزة، لكنه لن يوافق على تصعيد في لبنان تبادر إسرائيل إليه»، وأن ذلك سيكون في موازاة المطالبة بإدامة إدخال المساعدات الإنسانية وتوسيعها، و«تقديم خطّة لليوم الذي يلي «القضاء على حماس»». وفي هذا الإطار، نبّه بن إلى أنه إذا «استمرّت إسرائيل في التهرّب من خطّة اليوم التالي (كونها لا تمتلك إجابات على ذلك)، فستستسلم الولايات المتحدة للضغوط الدولية والداخلية التي تطالب بوقف الحرب ووقف إطلاق نار دائم»، مشيراً إلى وجود إغراءات تتمثّل في «تمويل دولي لإعادة إعمار القطاع، ومستوطنات غلاف غزة أيضاً»، كاشفاً أن هناك إغراء آخر «لا يتحدّثون عنه بصوت مرتفع»، وهو «حماية دبلوماسية وقانونية من تحقيقات ودعاوى ضدّ إسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حول جرائم حرب».
وإذ رأى أن المدخل إلى ما تقدّم، هو إظهار نتنياهو ليناً في موقفه المتشدّد من عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، فقد أشار إلى أن أيّ تراجع من قِبَل نتنياهو سيفضي، «إلى انسحاب اليمين المتطرّف (سموتريتش وبن غفير) من الائتلاف، ونهاية حكومة اليمين (الاستيطاني الديني المتطرف)»، وهو ما «سيسرّ الإدارة الأميركية طبعاً، لكنه سيقود إلى سقوط نتنياهو وانتخابات مبكرة، فيما الليكود يتراجع في الاستطلاعات، ونتنياهو ليس متحمّساً للانتخابات». مع ذلك، فإن رئيس الحكومة يُظهر موقفاً متصلّباً أمام الإدارة الأميركية، لا بل إنه «تفرّغ لاستضافة إيلون ماسك - الرجل المركزي في اليمين الأميركي الحالي - والخصم اللدود لبايدن»، بحسب ما لفت إليه بن، معتبراً أن «الدرعَين الواقيَين اللذين ارتداهما ماسك ونتنياهو خلال جولتهما المشتركة في (كيبوتس) كفار عزة، برزا كطبقة لنتنياهو بمواجهة الضغوط المتوقّعة من جانب واشنطن؛ وكأنه يقول لبايدن، قبل أقلّ من سنة على انتخابات مصيرية لرئاسته، إنه يوجد لديك الفيتو في الأمم المتحدة، لكن لديّ منصة «إكس»، وسنرى من سيكون أقوى». وطبقاً لبن، «سيضطرّ نتنياهو للحسم في الأيام القريبة، وما إنْ كان سيمضي لاستكمال الحرب تماشياً مع موقف (وزير الأمن يوآف) غالانت، و(رئيس هيئة الأركان هرتسي) هليفي، من خلال موافقة أميركية مقابل تقديم خطّة لليوم التالي، أو العودة إلى السياسة التي انتهجها طوال سنوات، بتراجعه عن القتال من خلال سلسلة صفقات وقف إطلاق نار وتبادل أسرى، وذلك حتى لا يتّخذ أيّ خطوة (سياسية) تجاه الفلسطينيين تقود إلى تفكيك الائتلاف وترسله إلى بيته».