وكانت الإدارة الأميركية قد طرحت السلطة الفلسطينية كخيار لإدارة قطاع غزة، منذ بدء الحديث عن خطّة اليوم التالي، وبحث السيناريوات السياسية لِما بعد الحرب، بعدما أيّدت الأهداف الإسرائيلية العريضة للعدوان على غزة، والمتمثّلة بـ«القضاء» على «حماس»، تمهيداً لـ«إنهاء» حكمها في القطاع، ووضع قيادة بديلة لإدارته. والجدير ذكره، هنا، أن بلينكن بحث في كلّ جولاته في المنطقة، وخلال اجتماعاته المتكرّرة مع عباس وقادة السلطة، إمكانية عودة الأخيرة إلى غزة، وضمان بسْط سيطرتها على الضفة والقطاع، علماً أن نتنياهو وقادة الاحتلال يرفضون الأمر بشكل قاطع، ويفضّلون إقامة سلطة جديدة مدنية لإدارة الأمور على أن تبقى الهيمنة والسيطرة الأمنية لإسرائيل.
تتكرّس الصورة التي يريدها الأميركيون للسلطة الفلسطينية: وكيل أمني متيقّظ ومتأهّب للعمل ضدّ كل مَن يعمل ضدّ إسرائيل
ومنذ بدء العدوان، تجلس السلطة الفلسطينية ساكنة، فيما أعلن عباس أن عودتها لإدارة قطاع غزة يجب أن تكون في إطار «حل سياسي شامل» للصراع، مضيفاً أن «القطاع جزء لا يتجزّأ من دولة فلسطين، وسنتحمّل مسؤولياتنا كاملةً في إطار حلّ سياسيٍ شامل في كل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية وغزة». وبحسب ما ورد من تسريبات، فإن السلطة وضعت عدّة مطالب خلال اللقاءات مع الأميركيين، كشروط لقبولها تولّي إدارة القطاع، ومن بينها أن «يقبل مجلس الأمن فلسطين عضواً في الأمم المتحدة؛ ثم عقد مؤتمر دولي للسلام لتنفيذ «مبادرة السلام العربية»؛ وتشكيل حكومة فلسطينية جديدة مسؤولة عن القدس الشرقية وغزة؛ ونقل مسؤولية المعابر الحدودية مع الأردن ومصر إلى السلطة الفلسطينية».
هكذا، باتت السلطة الفلسطينية التي تدرك أنها تترنّح في الوقت الراهن شعبياً وسياسياً واقتصادياً، تسارع إلى استغلال ما يجري في غزة لتحقيق أكبر قدْر ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية، انطلاقاً من قدرتها المفترضة على تلبية احتياجات العديد من الأطراف الدولية، ودورها المهم في الضفة على المستويين الأمني والاقتصادي. ولعلّ رفعها سقف مطالبها إلى هذا المستوى، إذا صحّ ما تم طرحه، ينطلق من اقتناعها بأنه سيتم رفضها إسرائيلياً، لتنتقل الكرة إلى الملعب الأميركي. لكن على أيّ حال، لا تبدو هذه الشروط قابلة للتحقّق أميركياً وإسرائيلياً؛ إذ ثمة رهان لدى واشنطن وتل أبيب على احتواء رام الله، ومن ثم تذويبها عبر إدخالها في دوامة الوقت والزمن والخطط المرحلية والمفاوضات، علماً أنها ستصطدم في النهاية بالرفض الإسرائيلي المؤكد والقاطع. ولعلّ الرغبات الإسرائيلية ستنتصر أخيراً في البيت الأبيض كونها تمثّل أولوية، ولذلك تفضّل إسرائيل إقامة سلطة حكم جديدة في غزة، ذات سلطات مدنية فقط.
بالنتيجة، لا تكترث الإدارة الأميركية لشأن الدولة الفلسطينية أو عملية «السلام»؛ حتى إن إدارة بايدن التي كانت سلطة رام الله تعوّل عليها لدى تولّيها الحكم، تجاهلت هذا الملفّ تماماً. وبالعودة إلى الذاكرة، يتّضح أن بايدن التفت إلى ما يجري في فلسطين، وباشر الاتصال بـ«أبو مازن» أثناء معركة «سيف القدس» عام 2021، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن تتكرّس الصورة التي يريدها الأميركيون للسلطة الفلسطينية: وكيل أمني متيقّظ ومتأهّب للعمل بمواجهة كل مَن يعمل ضدّ إسرائيل. وبالنتيجة، ينطلق الحَراك السياسي الأميركي في المنطقة من هدف واحد واستراتيجي، هو ضمان استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، في مقابل الهدوء وضبط الأوضاع في الضفة والمنطقة. وكي لا تبدو أميركا فجّة ووقحة في مطلبها، فهي تغلّف إملاءاتها بخطط سياسية لن تبصر النور، وخاصة أن جميعها ينطلق من رؤية إسرائيلية مفادها أن دولة الاحتلال قادرة على هزيمة المقاومة في غزة، فيما لم تستطع فعل أيّ شيء خلال 50 يوماً من العدوان.