عادت إسرائيل لتستأنف عدوانها على قطاع غزة، وعينها على «الهدنة»، وهو ما عكسته تسريبات الصحافة العبرية منذ الساعات الأولى لتجدّد الغارات الإسرائيلية المكثّفة على القطاع، بحديثها عن تطلُّع حكومة بنيامين نتنياهو إلى العودة إلى «الهدنة» خلال أيام قليلة، فضلاً عمّا تكشف عنه صحف غربية من استمرار المفاوضات في الكواليس لإنعاش التهدئة. وفي الوقت ذاته، واصل المسؤولون الإسرائيليون تشدّدهم في العلن، من خلال اجترارهم الحديث عن سعي حكومتهم إلى تحقيق الأهداف «الطموحة» للحرب، كالقضاء على حركة «حماس»، واستعادة الأسرى الإسرائيليين بالقوّة العسكرية، مهما استغرق ذلك من وقت.
ماذا تريد إسرائيل؟
المواقف العالية السقف، الصادرة عن تل أبيب، يضعها مراقبون في خانة الضغط على فصائل المقاومة، بغرض تحسين شروط التفاوض معها. وفي هذا الصدد، يكشف مسؤول عسكري إسرائيلي أنّه «من المحتمل الوصول إلى اتفاقات لتفعيل هدن أخرى مستقبلاً»، مضيفاً: «(إنّنا) نعتقد أن ممارسة المزيد من الضغط العسكري على حماس قد تؤدي إلى إطلاق المزيد من الرهائن في المستقبل». ويلفت إلى أنّ الجيش الإسرائيلي «يقوم في الوقت الراهن بإطلاق حملة عسكرية مكثّفة، ستستمرّ لأسابيع، على أن يعقبها تخفيض حدّة العمليات» في مرحلة لاحقة، ملمّحاً إلى وجود خلافات بين تل أبيب واشنطن، في شأن مستقبل قطاع غزة، في ضوء تأكيد العديد من المسؤولين الأميركيين رفضهم إعادة احتلال القطاع، زاعماً أنّ حكومته «لا تنوي احتلاله، لكنها في صدد العمل على بلورة خطط خاصة بها يمكن أن تؤثر على وحدة أراضيه» بعد الحرب. ويعكف الجيش الإسرائيلي، وفق المسؤول نفسه، على دراسة خيارات تشمل إنشاء «منطقة أمنية عازلة على حدود غزة، وضمن أراضٍ تابعة للقطاع، بصورة لا تتيح لحماس (إعادة) تشكيل قدراتها العسكرية بالقرب من تلك الحدود، ومفاجأة إسرائيل (بعملية عسكرية مباغتة) مرّة أخرى». ووصف تلك المساعي بأنها «إجراء أمني، وليس سياسياً»، مدّعياً «(أنّنا) لا نعتزم البقاء على تلك الحدود».
ومع بدء توجّه العدوان الإسرائيلي نحو جنوب قطاع غزة، وتواتر الأنباء عن ضغوط مارستها واشنطن على تل أبيب لـ«ضبط» مسار العمليات العسكرية هناك، يتحدّث مسؤولون أميركيون عن أنّ هذه «العمليات تنتهج (تكتيكات) مشابهة إلى حدّ ما لتلك المتّبعة في عمليات مكافحة الإرهاب، ذلك أنّ الإسرائيليين تعهّدوا (لنظرائهم الأميركيين) بعدم مهاجمة المناطق السكنية في خانيونس ورفح بالكثافة (النارية) ذاتها التي سبق أن انتهجوها في مدينة غزة»، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من 60% من المساكن تعرّضت لتدمير كلّي أو جزئي. لكنّ مراقبين يرون أن إلقاء منشورات على منطقة خانيونس تعلن أن المدينة باتت «منطقة عمليات عسكرية خطيرة»، وتأمر سكانها بالنزوح جنوباً نحو رفح بالقرب من الحدود المصرية، يثبت بطلان المزاعم الأميركية والإسرائيلية حول إقامة «مناطق آمنة» داخل القطاع.
وفي سياق ازدواجية التعاطي الأميركي نفسها، يمكن التوقّف عند ما جاء أخيراً على لسان نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، حين جدّدت دعم بلادها لما وصفته بـ«الأهداف العسكرية المشروعة لإسرائيل» في القطاع الفلسطيني المحاصر، على رغم إقرارها بأن حصيلة القتلى من المدنيين الفلسطينيين «مرتفعة للغاية»، ودعوتها الجانب الإسرائيلي إلى احترام «القانون الدولي الإنساني». وزادت هاريس، في مؤتمر صحافي خلال «قمة المناخ» في دبي، حيث التقت القادة الرئيسيين في المنطقة: «بينما تواصل إسرائيل تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، نعتقد أنه يتعيّن عليها أن تفعل المزيد لحماية المدنيين الأبرياء».

زيارة بلينكن لإسرائيل: تغيّر في اللهجة أم في السياسة؟
وكمؤشر إلى ما عدّه البعض تمديد مهلة الضوء الأخضر، المعطى أميركيّاً لإسرائيل، جاء التصعيد الإسرائيلي بعد جولة قام بها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الأراضي المحتلّة، وترداد الأخير من دون كلل، للدعاية الإسرائيلية حول تحميل حركة «حماس» مسؤولية عدم تمديد الهدنة، بدعوى أنها بادرت إلى إطلاق النار قبل حلول الوقت المحدّد لانقضائها، على رغم إشارته، في الوقت نفسه، إلى التوصّل إلى ما سمّاه «خطّة واضحة» مع القادة العسكريين الإسرائيليين بهدف «الحدّ من سقوط ضحايا مدنيين» من الفلسطينيين.
وفي المقابل، استشفّ آخرون من حديث بلينكن تباينات أميركية - إسرائيلية لا تزال على حالها في عدد من المسائل، أبرزها ما يتعلّق بسير العمليات العسكرية في غزة، في ظلّ بدء إسرائيل عملية توغل بري في الجنوب، فضلاً عن الترتيبات السياسية والأمنية المستقبلية في مرحلة ما بعد الحرب. وهي تباينات أقرّ بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وتطرّق إليها كذلك وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، حين رأى أنّ إسرائيل تخاطر بـ«هزيمة إستراتيجية» في غزة إذا لم تستجب للتحذيرات في شأن ارتفاع عدد القتلى المدنيين، في إشارة إلى ارتفاع مستوى تأييد الفلسطينيين لخيار المقاومة بفعل الحرب، مؤكّداً ممارسته ضغوطاً على القادة الإسرائيليين بهدف حثّهم على «تجنّب سقوط ضحايا من المدنيين، وتجنّب الخطاب غير المسؤول، ومنع العنف من قِبَل المستوطنين في الضفة الغربية».
إدارة بايدن أدركت في وقت متأخّر إلى حدّ ما، أن الحرب في غزة لا تمثّل مصلحة أميركية


إزاء ذلك، رأت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ إدارة جو بايدن «كانت في عجلة من أمرها، لعقد الآمال على إمكانية البناء على وقف إطلاق النار المؤقت بين حماس وإسرائيل، والذي تمّ التوصل إليه أخيراً، من أجل تغيير مسار الحرب في غزة»، كاشفةً أن المسؤولين الأميركيين، خلال جولاتهم ومباحثاتهم في فترة الهدنة، «كانوا يأملون أن يكون نظراؤهم الإسرائيليون أقلّ توتّراً، وأكثر تقبّلاً للنصيحة الأميركية، بغية مساعدتهم في التوصّل إلى إستراتيجية عسكرية أكثر دقّة». ولفتت الصحيفة الأميركية إلى أنّه «مع استئناف القتال من جديد، ليس من الواضح ما إذا كانت الضغوط التي مارسها البيت الأبيض قد أفضت إلى أيّ تأثير يُذكر». وإذ انطلق محلّلون غربيون من إعلان إسرائيل نشر خريطة تقسّم غزة إلى عدة مناطق، من بينها المناطق التي ينبغي إخلاؤها من المدنيين، على أنها شكل من أشكال الاستجابة لتوجيهات الولايات المتحدة، قال آخرون إنهم لم يروا أيّ دلائل على أن الغارات الجوية الإسرائيلية تتمّ بالقدر الكافي من «الانضباط العملياتي» الذي يمكن أن يحول دون سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين في منطقة تُعدّ الأكثر كثافة سكانية على مستوى العالم.
وأشارت الصحيفة إلى أن مواقف كبار المسؤولين الأميركيين خلال فترة «الهدنة»، لناحية ضرورة مراعاة إسرائيل لبعض الاعتبارات «الإنسانية»، أعطت دلالات على وجود «تبدّل ملحوظ» في لهجتهم مقارنة بما دأبوا على إطلاقه من تصريحات خلال الأيام الأولى للحرب، وأوحت بتغيّرات أكثر حدّة من مثل التحذير الضمني من أنّه «في حال ترتّب على معاودة إسرائيل لعملياتها العسكرية، وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، فإن الأمر سيكون بمثابة رفض علني من قِبَلها للموقف الصريح الصادر عن القادة الأميركيين». وبحسب الصحيفة، فإنه و«على الرغم من هذا التغيير الملحوظ، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان بايدن سيكون على استعداد للنأي بنفسه عن (تأييد) إسرائيل، أو توتير العلاقات معها إلى حدّ القطيعة، إذا لم تستجب للنصائح الأميركية».
وفي هذا الإطار، يوضح الباحث المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في «مجلس العلاقات الخارجية»، ستيفن كوك، أنّ التغيّر في مواقف أركان الإدارة لا يعدو كونه «تغيّراً في اللهجة، أكثر منه تغيّراً جوهرياً (في الموقف السياسي)»، في حين يجزم السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، إيتمار رابينوفيتش، بأن «المسؤولين الإسرائيليين يدركون أنه لا يمكن تكرار ما حدث في الشمال»، مرجّحاً وقوع «قطيعة علنية» بين واشنطن وتل أبيب على خلفية استمرار التباينات بينهما في شأن مرحلة ما بعد الحرب. ويرى رابينوفيتش أن رغبة بايدن في «إعادة إحياء المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بما يترتّب على ذلك من احتمال قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، تُعدّ مشكلة كبيرة بالنسبة إلى حكومة نتنياهو، لأن تركيز الأخير ينصبّ على كيفية البقاء في السلطة». وفي السياق نفسه، يعتبر الباحث في «معهد بروكينغز» للدراسات السياسية والإستراتيجية، بروس ريدل، أن إدارة بايدن «أدركت في وقت متأخّر إلى حد ما، أن الحرب في غزة لا تمثّل مصلحة أميركية»، مضيفاً أن «الحرب التي يُقتل فيها آلاف الفلسطينيين الأبرياء تضرّ بسمعة أميركا في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وفي بلدان العالم الإسلامي وخارجه». وأعرب ريدل، الذي سبق أن خدم في الاستخبارات الأميركية، وشغل مناصب استشارية لأربعة رؤساء أميركيين، أن بايدن «متردّد للغاية في الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك»، في إشارة إلى الإدانة اللفظية للسلوكيات الإسرائيلية، مؤكّداً أن الأخير «يفتقر إلى الآلية التي تسمح له بإجبار الإسرائيليين على وقف الحرب».