لطالما كانت عائلة حديد محطّ اهتمام ومتابعة في أي عدوان يشنّه الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، حتى باتت مواقف بيلا حديد أكثر فاعلية تجاه القضية من الرئيس الفلسطيني محمود عباس. في الحرب الأخيرة، نالت جيجي القسم الأكبر من الهجوم. مع بداية الحرب على قطاع غزة، نشرت عارضة الأزياء الأميركية من أصل فلسطيني جيجي حديد في 10 تشرين الأول (أكتوبر)، منشورات تدعم الشعب الفلسطيني، ولكن تدين هجوم «حماس». واجهت هجوماً كبيراً، بعد اتّهامها إسرائيل بنزع أعضاء من فلسطينيّين متوفين من دون موافقتهم لسنوات، متهمةً حديد الحكومة الإسرائيلية بالنظر إلى جميع الفلسطينيّين على أنهم إرهابيون.حاولت كَسِواها من مشاهير الغرب، اتّخاذ موقف وسطي، إلى أن أعُلنت الهدنة، لتقوم بمشاركة قصص على صفحتها على إنستغرام ضد وحشية الاحتلال، وشاركت تعليقاً قالت فيه إنّ «إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحتفظ بالأطفال كأسرى حرب»، ناشرةً صورة لأحمد مناصرة كمثال. شاركت المنشور تزامناً مع أول عملية تبادل أسرى بين «حماس» والاحتلال.

بيلا حديد في تظاهرة مناصرة لفلسطين في نيويورك عام 2021

بعد أيام وهجوم كبير عليها من فنانين وعارضي أزياء اسرائيليين، تراجعت جيجي عن المنشور، واعتذرت قائلةً «أردت أن أظهر الطرق التي يتم بها تقويض القانون الدولي من قبل الحكومة الإسرائيلية. في هذه الحالة، كنت أحاول تسليط الضوء على كيفية اعتقال جيش الدفاع الإسرائيلي الأطفال الفلسطينيين الذين لا يحصلون في كثير من الأحيان على الحقوق نفسها التي يحصل عليها الطفل الإسرائيلي المتّهم بالجريمة نفسها. ولسوء الحظ، استخدمتُ المثال الخطأ لتوضيح هذه النقطة، وأنا نادمة على ذلك».
انتقدت أيضاً العنف من جميع الأطراف في الحرب الحالية بين إسرائيل والمقاومة، معتبرةً أنّه «كان يُفترض أن يكون تركيزي على قضايا حقوق الإنسان. ولهذا أريد أيضاً أن أكرّر أنّ مهاجمة أي إنسان، بمن في ذلك بالطبع الشعب اليهودي، أمر غير مقبول على الإطلاق». وقد ساوت بين الأطفال الإسرائيليين والفلسطينيين، معتبرةً أنهم يستحقّون حقوقاً إنسانيةً متساوية.
ورغم مواقف جيجي الإشكالية تجاه الحرب الأخيرة، إلا أنّها لم تكن ناشطة مع القضية الفلسطينية بشكلٍ كبير. كانت تكتفي ببعض المواقف، وكان التركيز عما ستقوله شقيقتها الصغرى بيلا لأنّها معروفة بمواقفها ونشاطها العلني الداعم للقضية الفلسطينية.
يوم 26 تشرين الأول، خرجت بيلا عن صمتها بعد 19 يوماً على بدء الحرب على قطاع غزة. قالت في منشور لها على إنستغرام: «من المهم أن نفهم صعوبة أن تكون فلسطينياً، في عالم لا ينظر إلينا إلا على أننا مجرد إرهابيّين يقاومون السلام». اعتذرت حديد عن سكوتها لأنها لم تجد بعد الكلمات المناسبة، معربةً عن حزنها على «المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين»، وأشارت إلى «صدمة الأجيال» التي عانى منها الفلسطينيون على مدى عقود من الاحتلال العنيف. وأعلنت أنّها وعائلتها تعرضوا للتهديد بالقتل بسبب دعمهم فلسطين.
وفي منشور طويل، شدّدت حديد على أنها في حداد مع «العائلات الإسرائيلية التي كانت تتعامل مع الألم وتداعيات الهجوم المفاجئ الذي شنته «حماس» في 7 تشرين الأول»، إلى جانب سكان غزة، وقالت: «بغضّ النظر عن تاريخ البلاد، فإنني أدين الهجمات الإرهابية على أي مدنيين»، و«ممارسة الإرهاب لا ينبغي أن يفيد حركة تحرير فلسطين».
وأشارت إلى الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، داعيةً للتبرع «ومواصلة الضغط على قادتنا، أينما كنا، حتى لا ننسى الاحتياجات الملحّة لشعب غزة، وضمان أن الفلسطينيين الأبرياء ليسوا الضحايا المنسيّين في هذه الحرب». وروت تاريخ عائلتها التي طُردت من أرضها: «شهدت عائلتي 75 عاماً من العنف ضد الشعب الفلسطيني، وأبرزها غزوات المستوطنين الوحشية التي أدت إلى تدمير مجتمعات بأكملها، والقتل بدم بارد، وإبعاد العائلات قسراً عن منازلها». وأضافت أنّ «ممارسة الاستيطان على الأراضي الفلسطينية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وهو ما تؤكده الأمم المتحدة»، واصفةً آلام هذا الإرث بأنه «لا يمكن تصوّرها».
جيجي وبيلا، هما ابنتا المطور العقاري محمد حديد، الذي طُرد مع عائلته من منزلهم في الناصرة عام 1948، وكان يبلغ تسعة أيام. جاء ذلك على يد عائلة يهودية وجدت إيواءها في منزل آل حديد، بعدما فرّت من ألمانيا النازية. تنقّلت عائلة حديد بين دمشق وتونس واليونان، قبل أن تستقر في واشنطن، عندما كان محمد يبلغ 14 عاماً.
في مقابلة سابقة معها عام 2022، تحدّثت بيلا بإسهاب عن علاقتها بالقضية الفلسطينية، وأشارت إلى أنها كانت مترددة في الحديث عن دعمها للقضية. تدرك حديد كلفة مواقفها وهي مستعدة لدفعها اليوم. تقول «لو بدأت الحديث عن فلسطين، عندما كنت في العشرين، لما حصلت على التقدير والاحترام الذي أحظى به الآن». مع ذلك، تصرّ حديد على «التحدث بشجاعة عندما يتعلّق الأمر بفلسطين»، وشاركت تبعات مواقفها، حيث توقفت العديد من الشركات عن التعامل معها، كما خسرت صداقات عديدة.
وقبل المقابلة، نشرت على إنستغرام «لن أسمح لأحد أن ينسى فلسطيننا الجميلة، أو شعبنا الجميل»، مضيفةً: «كل يوم أتمنى أن أعود بالزمن إلى الوراء، عندما كنت طفلة، حتى أتمكن من البدء بالقتال من أجل فلسطين. من أجل عائلتي وشيوخنا وتاريخنا ولشعب فلسطين الذي لا يزال يعيش الآن تحت وطأة هذا الاحتلال الغادر والمرهِق والمؤلم».
في عام 2021، أدانت حكومة الاحتلال استخدام بيلا لوسائل التواصل الاجتماعي، وحضورها مسيرة لرفع مستوى الوعي من أجل حقوق الشعب الفلسطيني، مشيرةً إلى أنها «يجب أن تخجل من نفسها» واتّهمتها بالدعوة إلى «القضاء على الدولة اليهودية».
يوضع الحديث عن موقف الفنان من القضية الفلسطينية، والتساؤلات حوله على ميزان فكرة الاستفادة، إن كان هذا الموقف سيكلفه على مستوى العمل أو البدل المادي، أم سيحقق له أرباحاً وشهرةً أكثر. الاستثمار في القضية الفلسطينية جرى بين الفنانين العرب، أما عند الغرب، فالموقف الداعم يعني حتماً الخسارة. المواقف الداعمة لفلسطين كانت قليلة نسبة لمن دعموا الاحتلال، وكان هناك إجماع على إدانة القتل من الطرفين. يمكن تفهم هذا الموقف، لأسباب عدة كالبعد الجغرافي وعدم تتبّع الأحداث والسياق التاريخي، وأكثر الخوف من خسارة أعمال وعقود بسبب نفوذ اللوبي الإسرائيلي ودعم الحكومات الغربية والإدارة الأميركية للاحتلال، لتصبح إدانة القتل من الطرفين بحد ذاتها دعوة لـ «معاداة السامية».
على قاعدة أنّ الخاص عام والعام خاص، تفهم حماسة بيلا حديد، كعارضة أزياء شهيرة وصاحبة أعلى أجر، وابنة مهاجر ثري وما يتبعه هذا الوقع الاجتماعي من امتيازات، تجاه القضية الفلسطينية. هي تنحدر من فلسطين، وتتشارك ألم فقد الأرض والهوية مع أبناء شعبها، لكنها لم ترَ فلسطين يوماً، ولو حُدّثت عنها، وقرأت وسمعت، يبقى هناك تساؤل كبير عن حماستها.
أصوات المشاهير أساسية في الحرب النفسية لتوجيه الرأي العام ودعم أصحاب القضية والمعنيّين


من يتابع منشوراتها، يجد اهتمامها الكبير بالصحة النفسية، ومعاناتها من اضطراب ما بعد الصدمة، ومن يعانون من الصدمة غالباً ما يجدون صعوبة في التعامل مع أحداث مقلقة، ويصبح العام هو الخاص، كنوع من ملجأ بعد بحث طويل عن مكان وانتماء وهوية، وعليه يجد الألم والغضب الداخلي مبرراً ليصبحا علنيَّين ومسموعَين. هذا ما يظهر على كُثر جراء انتكاستهم النفسية بسبب الحرب رغم بعدهم الجغرافي، مقابل ثبات من هم تحت القصف.
لا يقلّل البعد النفسي من أهمية هذه المشاعر، ولا يفرغها من مضمونها السياسي، بل يسيّس كل ما هو نفسي، إذ ينفي فكرة الانفصال التام عن المحيط، وتعزيز الفردية أمام معاناة الشعوب وقضاياهم، ويعيد الفرد إلى موقعه ضمن المجموعة، ويضعه أمام مسؤوليته تجاه مجتمعه وناسه وعالمه.
يطبّق الأمر نفسه على الناس، الذين يبحثون عمن يتحدث باسمهم علناً، وأن يشعروا أن أحدهم يشعر بألمهم، ويسمع نداءاتهم، ومن هنا الخاص يصبح عاماً، حيث كلّما كبر حجم التوافق على الألم، يشعر الفرد بأحقية وجعه، وبراحة أنه ليس بمفرده. من هنا أصوات المشاهير أساسية في الحرب النفسية، لتوجيه الرأي العام تجاه قضية، ودعم أصحاب القضية والمعنيّين.



فنّانون دفعوا ثمن مواقفهم
إلى جانب بنات حديد، دفع عدد من الفنانين والمشاهير ثمناً باهظاً لتحدثهم علناً دعماً للفلسطينيين، حيث تم استبعاد سوزان ساراندون من وكالتها للمواهب، بعد تصريحها في تجمّع مؤيّد للفلسطينيين في مدينة نيويورك، بأنّ «هناك كثير من الناس الذين يخشون أن يكونوا يهوداً في هذا الوقت، ويتذوّقون شعور كونك مسلماً في هذا البلد». وكان لها نشاط على مواقع التواصل دعماً لغزة، وكتبت إلى جانب الصورة، مع أعضاء التجمّع النسوي الفلسطيني في احتجاج #March4Palestine في واشنطن في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر): «ليس عليك أن تكون فلسطينياً حتى تهتم بما يحدث في غزة»، مضيفةً «أنا أقف مع فلسطين، لا أحد حرّ حتى يتحرّر الجميع».
بدورها، طُردت الممثلة ميليسا باريرا من فيلم scream، بعد دعوتها إلى وقف إطلاق النار. كما أعادت نشر مقال اتّهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة. وحُظر الممثل جون كوزاك على موقع X، بعد مطالبته بوقف إطلاق النار. أما الممثلة ميا خليفة، فخسرت عقدها مع مجلة Playboy بعدما وصفت «حماس» بأنّهم «مقاتلون من أجل الحرية». كما تخلّت شركة Red Light Holland عن خليفة كمستشارة.
وأجبرت الممثلة والمخرجة مها دخيل، على التنحي من مجلس إدارة وكالة الفنانين المبدعين بعد وصفها الحرب على غزة بالإبادة الجماعية. وبعد دعم المهاجم الهولندي من أصول مغربية، أنور الغازي، المقاومة، خسر عقده مع نادي «ماينز» الألماني. واستقال الرئيس التنفيذي لـ «قمة الويب» بادي كوسغريف، بعد انسحاب العديد من شركات التكنولوجيا الكبرى من المؤتمر التكنولوجي السنوي المقبل للشركة، بعد وصفه ما يحدث في غزة قائلاً «جرائم الحرب هي جرائم حرب حتى عندما يرتكبها الحلفاء، ويجب التنديد بها على حقيقتها».
أما الصحافية جازمين هيوز، فقد استقالت من صحيفة «نيويورك تايمز»، بعد ضغط إدارة التحرير عليها بسبب مواقفها التي وصفها رئيس التحرير جيك سيلفرستين بـ «الانتهاك الواضح لسياسة «التايمز» بشأن الاحتجاج العام».
كما استقال المدير السابق لمكتب نيويورك لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان كريغ مخيبر، معبراً عن عجز المنظمة عن التدخل لوقف الصراع.
وطُرد رئيس تحرير المجلة الأكاديمية لعلوم الحياة eLife مايكل ايسن لانتقاده الحرب على غزة، قائلاً: «كل إنسان عاقل على وجه الأرض يشعر بالرعب والصدمة مما فعلته «حماس» ويريد ألّا يتكرر أبداً». وأضاف «لكنني أشعر بالرعب أيضاً من العقاب الجماعي الذي يتم تطبيقه بالفعل على سكان غزة، ومن أن الأسوأ على وشك الحدوث».
وقررت صحيفة «الغارديان» عدم تجديد عقد رسام الكاريكاتور ستيف بيل بعدما اشتكى علناً من رفض الصحيفة نشر رسم توضيحي يصوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يقطع مربعاً من بطنه بمشرط على شكل غزة. وفُصل رئيس تحرير Artforum ديفيد فيلاسكو رداً على رسالته المفتوحة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار وتحرير فلسطين.