بسحر ساحر، اتّفق معظم القنوات اللبنانية منذ بداية الأسبوع على أمر واحد: ليس على معاداة كيان الاحتلال الذي كانت قواته تستهدف مركزاً للجيش اللبناني، موقعةً الرقيب عبد الكريم المقداد شهيداً. لقد ارتأت أنّ الخطر الأكبر يقع في إعلان حركة «حماس» عن تشكيل «طلائع طوفان الأقصى»، حتّى بعد تراجع الحركة عنه وتوضيح اللّغط. هكذا، انبرت القنوات، وبعضها ليحمل لواء القضية الفلسطينية، في مهاجمة القرار واعتماد مقارنة «فتح لاند» رغم اختلاف الأمرَين من حيث الإطار والسياق والتاريخ، وعادت لتذكّر بالقرار 1701 لمساندة موقفها، متجاهلةً القرار ذاته تماماً في ما يخصّ كيان الاحتلال واستهدافه الجيش اللبناني! ليس مطلوباً من أحد الدفاع عن القرار أو الترويج له، لكن يجب على الأقلّ احترام القواعد المهنية في إبداء الرأي والرأي الآخر بموضوعية بدلاً من التهويل، وللمشاهد أن يحكم!
(وكالة «غيتي)

من القنوات المذكورة OTV التي حذت في موقفها حذو رئيس «التيّار الوطني الحرّ» جبران باسيل الذي اقتبست عنه، فجاء في مقدّمة نشرة أخبارها مساء الإثنين أنّها «محاولة مكشوفة لإعادة عقارب الساعة إلى مرحلة 3 تشرين الثاني 1969، اليوم الذي شهد التوقيع على اتّفاق القاهرة الشهير وتشريع ما عرف يومها بـ«فتح لاند»، لتكون النتيجة الوحيدة يومها استباحة أرض لبنان، ودفعه في أتون الحرب، لكن من دون تحرير فلسطين. اليوم، أعلنت حركة «حماس» في لبنان عن تأسيس وإطلاق ما سمّته «طلائع طوفان الأقصى»». وأكملت المقدّمة أنّه «على الفور، أعلن رئيس التيّار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل موقفاً جازماً في هذا الإطار»، وأوردت ما قاله: «نرفض بالمطلق إعلان حركة «حماس» في لبنان تأسيس «طلائع طوفان الأقصى» ودعوتها الشباب الفلسطيني إلى الالتحاق بها، كما نعتبر أنّ أيّ عمل مسلّح انطلاقاً من الأراضي اللبنانية هو اعتداء على السيادة الوطنية، ونذكّر بما اتّفق عليه اللبنانيون منذ عام 1990 وفي الطائف بوجوب سحب السلاح من الفلسطينيّين في المخيّمات وخارجها وبما أجمعوا عليه من إلغاء اتّفاقية القاهرة التي شرّعت منذ عام 1969 العمل المسلّح للفلسطينيّين انطلاقاً من لبنان. لبنان صاحب حقّ يقوى بمقاومته الوطنية لـ«إسرائيل» دفاعاً عن نفسه، ويضعف بإقامة «حماس لاند» في الجنوب من جديد للهجوم على «إسرائيل» من أراضيه».
ولئن دفعت الضجّة السياسية والإعلامية حركة «حماس» إلى التراجع عن قرارها في اليوم التالي وتأكيدها على أنّ الهدف لم يكن كما صُوِّر، إلّا أنّ القنوات واصلت هجومها واستخدامها التعابير ذاتها، ولم تشذّ OTV عن القاعدة، فورد في مقدّمتها مساء الثلاثاء: «على الخطّ الميداني، عامل سلبي جديد عبّر عنه أمس الإعلان عن إنشاء طلائع خاصّة بـ«حماس» في لبنان، ما أثار ردود فعل رافضة لتكرار تجربة «فتح لاند»، أوّلها من رئيس التيّار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل. واليوم، جزم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أنّ هذا الأمر مرفوض نهائيّاً ولن نقبل به، علماً أنّ المعنيّين عادوا وأوضحوا أنّ المقصود ليس عملاً عسكريّاً».
أمّا قناة «الجديد» التي عادت وتخندقت في موقع المدافع عن القضية الفلسطينية منذ أن قُرعت طبول «طوفان الأقصى»، فغلّفت موقفها بالموضوعية، قبل أن تستخدم تعبير «فتح لاند» أيضاً وتصل حدّ التهويل والتبرير للاحتلال بقولها إنّ تشكيل الطلائع هو «استدراج لردّ إسرائيلي أعمق»! في مقدّمتها مساء الإثنين، أوردت أنّ «الانشطار عسكريّاً بلغ لبنان مع وصول «طلائع طوفان الأقصى» إلى الأراضي اللبنانية غير المتحدة. إذ أعلنت «حماس» تأسيس طلائعها في أماكن وجودها كافّة لمقاومة الاحتلال بكلّ الوسائل المتاحة والمشروعة. وأوّل المنتقدين كان رئيس التيّار الوطني الحرّ جبران باسيل، قائلاً إنّ لبنان صاحب حقّ يقوى بمقاومته الوطنية لـ«إسرائيل» دفاعاً عن نفسه، ويضعف بإقامة «حماس لاند» في الجنوب من جديد للهجوم على «إسرائيل» من أراضيه. وستتسبّب خطوة «حماس» هذه في طوفان في المواقف، ولا سيّما لدى الثنائي المسيحي، في وقت إنّ المكوّنات اللبنانية مدعوّة إلى جدال آخر يتّصل بقيادة الجيش». وفي مقدّمة نشرة الثلاثاء، تماهى موقف «الجديد» مع موقف خصمها اللدود النائب جبران باسيل، فاعتبرت مثله أنّ للبنان مقاومة خاصّة به تتولّى العمليّات ضدّ كيان العدوّ، وكرّرت معزوفة «فتح لاند»، فورَد أنّ «نيران العدوّ التي طاولت المؤسسة العسكرية للمرّة الأولى منذ الثامن من أكتوبر، لم تبرِّد الرؤوس الحامية الحائمة فوق رأس المؤسّسة العسكرية بالاتّفاق على تجنيبها تجرّع كأس الفراغ المُرّة، والهدوء المنشود في أدقّ مرحلة تمرّ بها البلاد، مضبوط على إيقاع جبهة الجنوب الممسوكة من حزب الله الذي يقوم بواجب الإسناد من منطلق الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلّة، ولا يحتاج إلى قوّة دفع على شكل «طلائع طوفان الأقصى» تتّخذ من أرض الجنوب منصّة إطلاق واستدراج لردّ إسرائيلي أعمق، ضمن تعبئة وحشد الشباب الفلسطيني للانضمام إلى طلائع المقاومين والمشاركة في صناعة مستقبل القضية الفلسطينية وفي تحرير القدس».
أمّا LBCI فحاولت أن تكون أكثر موضوعية من زميلاتها من دون أن تنجح، كما كرّرت فكرة أنّ الحكومة لم تعلّق على الموضوع، وهي فكرة لا تخطر في بال القناة إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على السيادة اللبنانية. ورد في مقدّمة الإثنين: «لبنانيّاً وفلسطينيّاً في آن واحد، تطوّر من شأنه أن يخلط الأوراق الفلسطينية في لبنان. فقد أعلنت «حماس» عن تأسيس وإطلاق «طلائع طوفان الأقصى». ووفق بيان الإعلان، فإنّ هذا الإطلاق هو تأكيد لدور الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافّة، في مقاومة الاحتلال بكلّ الوسائل المتاحة والمشروعة. فهل ستكون لهذه الخطوة أي تداعيات لبنانية؟». أمّا في مقدّمة الثلاثاء فورد: «جبهة الجنوب تقدّمت في الأخبار انطلاقاً من معطيَين: الأوّل استهداف الجيش الإسرائيلي موقعاً للجيش اللبناني، ما أدّى إلى سقوط شهيد وثلاثة جرحى، والثاني البلبلة التي أحدثها بيان «حماس» عن تشكيل «طلائع طوفان الأقصى»، الذي يبدو أنّه تمّ التراجع عنه بعد ردّات الفعل عليه، علماً أنّ الحكومة لم تعلن أيّ موقف».
المشكلة لم تكن في المقدّمة، إنّما في تقرير عرضته LBCI مساء الثلاثاء حول «طلائع طوفان الأقصى»، وكان التذمّر واضحاً. ولئن استُعرض الرأي الآخر عبر استضافة ممثّل حركة «حماس» في لبنان أحمد عبد الهادي الذي أكّد أنّ إطار الإعلان شعبي لا عسكري، وأنّه لو كانت الحركة تُدرك أنّه سيكون للإعلان أبعاداً معيّنة، لكانت أقامت مؤتمراً صحافيّاً شرحت ما يقوله في مقابلته، إلّا أنّ معدّ التقرير مارون ناصيف أبى إلّا أن يُبدي رأيه العارض في قراءته للتقرير حتّى عندما تنافى تماماً مع ما قاله ضيفه، فيما كان من الأجدى طرح هذه الإشكاليّات أمام الأخير لا «خلف ظهره». اعتبر ناصيف أنّ «بيان «حماس» يشكّل تعدّياً فاضحاً على السيادة اللبنانية» وأنّ «حكومة تصريف الأعمال التزمت الصمت كأنّها غير معنيّة بما حصل». ورغم تأكيد عبد الهادي أنّ أحداً لم يتّخذ القرار بالرجوع إلى الوراء وألّا «حماس لاند»، إلّا أنّ ناصيف عاد وكرّر عبارة «فتح لاند»، ناسباً إيّاها إلى «ردود الفعل اللبنانية المستنكِرة»، واستخدمها لإنهاء تقريره بجملة سياسية بامتياز، فقال: «أكان التراجع بطلب من «حزب الله» أم بقرار من «حماس»، يبقى الأهمّ أنّ الحركة تراجعت، وخصوصاً بعد ردود الفعل اللبنانية المستنكِرة والرافضة لإعادة عقارب الساعة فلسطينيّاً إلى زمن «فتح لاند»، حين كانت ساحة الجنوب اللبناني مفتوحة أمام العمل الفدائي الفلسطيني ضدّ «إسرائيل»، بغطاء سياسي من اليسار اللبناني وبعض الأنظمة العربية»! بهذا التبسيط والتسخيف، اختصر ناصيف المشهد السياسي اللبناني الحالي والتاريخي من منظوره الشخصي الذي لا يعكس الواقع بالضرورة، وأنهى تقريره وأكمل يومه كأنّ شيئاً لم يكن!
اعتبرت mtv أنّ استهداف الجيش رسالة للمسؤولين لتطبيق القرار 1701


على ضفّة mtv، كان متوقّعاً الاعتراض، بل يمكن التكهّن بما ستنطق به هذه القناة. ورد في مقدّمة الإثنين أنّه «هكذا عدنا من جديد إلى نغمة «طريق فلسطين تمرّ من لبنان»، كأنّ الأعوام دارت دورتها لينتقل الجنوب اللبناني من زمن «فتح لاند» إلى زمن «حماس لاند»! أين السلطات اللبنانية من كلّ ما يحصل؟ وإلى متى السكوت المُريب للمسؤولين فيما الكرامة تُمتهن، والسيادة تُنتهك، والوطن يكاد يُصبح مجرّد أرض مستباحة؟». وأكملت القناة في تقرير لها باستضافة النائب كميل شمعون الذي خلط حابل التاريخ بنابل الحاضر، كما أوردت منشوراً للمتحدّث باسم جيش العدوّ يردّ فيه على النائب جبران باسيل ويصف موقفه بأنّه «رجولي»، قبل أن يلمّح إلى «إيران لاند» وإلى أنّ «حزب الله» و«حماس» «وجهان لعملة واحدة»، ويتحدّاه بالمطالبة بنزع سلاح الحزب، رغم أنّ موقف باسيل كان واضحاً بتفضيله حركة مقاومة لبنانية على غيرها. لكنّ mtv رأت موقف المتحدّث ضرباً لعصفورَين بحجر، هي المعتادة على نقل مواقفه وحتّى المزايدة عليها. كما استضاف التقرير رئيس تحرير صحيفة «النهار» غسّان حجّار الذي اعتبر أن «نحن معهم، لكن ليدافعوا عن قضيّتهم في الداخل». وانتهى التقرير بإيراد موقف «حماس» على لسان المتحدّث عبد الهادي بطريقة عابرة، كأنّه لرفع العتب وادّعاء نقل الرأيَين.
وفي مقدّمة مساء الثلاثاء، لم تتطرّق mtv إلى «طلائع طوفان الأقصى»، لكنّها اعتبرت، بطريقة مازوخية، أنّ استهداف الجيش اللبناني رسالة للمسؤولين اللبنانيّين ليطبّقوا القرار 1701! وجاء في المقدّمة: «حرب عسكرية في الجنوب، وحرب سياسية - ديبلوماسية في بيروت. ففي منطقة النبي عويضة - العديسة تعرّض مركز عسكري للقصف، ما أدّى إلى استشهاد جندي وإصابة ثلاثة آخرين. الاستهداف غير المسبوق يطرح أكثر من سؤال، وخصوصاً أنّه تزامن مع هجمة ديبلوماسية أمنية على لبنان عنوانها واضح: تنفيذ القرار 1701، إمّا بالتراضي، وإمّا بالقوّة إذا لزم الأمر. وهو ما أفهمه مدير الاستخبارات الفرنسية برنار إيمييه للمسؤولين اللبنانيين، الذين التقاهم في زيارته السرّية. فهل ما حصل في الجنوب اليوم رسالة أولى إلى المسؤولين اللبنانيّين وإلى أصحاب القرار في لبنان ليفهموا ما عليهم أن يفهموه؟».
هكذا، بتنا في لبنان أمام إعلام لا يقفز فوق أصول المهنة ويختصر الأمور من منظور واحد فقط، بل تتّفق مختلف وسائله على هذا المنظور الواحد، ولو لم يتعلّق بمواضيع وطنية لا خلاف عليها. حتّى هذه المواضيع أثبتت بعض القنوات أنّها لا تكترث إليها إذا كانت تتعارض مع منظورها. باختصار، لم نعد أمام إعلام متعدّد الأقطاب كما يجب أن يكون في أيّ نظام ديموقراطي، بل بات التطرّف في الرأي سيّد الموقف، أكان مؤيّداً أم معارضاً، وليست هناك قناة تلفزيونية تنظر إلى الأمور بموضوعية، باستثناء «تلفزيون لبنان». لكنّ الأخير بدوره محطّ تجاذبات سياسية، ما يعني إغفاله لحقائق وتفاصيل كثيرة، ما يترك العامّة عُرضة لأجندات ديناصورات الطوائف وحيتان المال. باختصار أكثر، هذا هو المشهد في عاصمة الإعلام العربي.