منذ بدء حرب أوكرانيا قبل سنة وعشرة أشهر، لم يغادر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بلاده إلّا قليلاً، بسبب انشغاله بتلك الحرب. وعندما فعل، زار جمهورياتٍ سوفياتيّةً سابقةً تقع في الفضاء الأمني الروسي. ولذا، فإن مغادرته روسيا في هذا التوقيت في جولة شملت أبو ظبي والرياض، إنّما هي إشارة إلى أنه صار مرتاحاً هناك، ويستطيع الانصراف إلى شؤون أخرى تهمّ روسيا. ومن يتابع كيف يتوسّل مسؤولو الإدارة الأميركية، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن، الكونغرس لإقرار حزمة المساعدات المليارية إلى أوكرانيا تحت عنوان أن الامتناع عن ذلك سيقدّم نصراً لبوتين - رفض مجلس الشيوخ الأميركي، أوّل من أمس، إقرار هذه الحزمة - يدرك أنّ جزءاً كبيراً من الساسة الأميركيين صاروا يتصرّفون على أنه لا أملَ كبيراً يُرجى من الحرب التي تشارف على إنهاء عامها الثاني.وعليه، فإن حرب أوكرانيا ليست دافعاً أساسياً لجولة بوتين، وهو ما يفيد بأن طبيعة هذه الأخيرة ليست دفاعية، بمعنى أنه لم يذهب في مهمّة يقتضيها الدفاع عن البلاد، وإنما ذاهب لتحقيق مكاسب في أرض نفوذ أميركي، على الطريقة نفسها التي جاء بها، قبل عام تماماً من الآن، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض، في زيارة جُمع له خلالها كلّ القادة العرب، ثمّ أنتجت لاحقاً اتفاقاً مفصلياً بين إيران والسعودية أنهى القطيعة وفتح آفاقاً للتعاون بينهما. وللمفارقة، استضاف بوتين، أمس، في موسكو، غداة جولته الخليجية، الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي. ورغم أنّ حرب غزة جعلت السعودية والإمارات تقتربان أكثر من الولايات المتحدة، لأنه في أوقات الأزمات التي قد تؤثّر في مصير منطقة بأكملها، لا يخاطر الخليجيون بتغيير المواقع، ولكن ذلك لا يمنع بوتين، الذي يَنظر إليه البلَدان المذكوران كصديق، على الأقلّ، من أن يعرض لهما، على طريقة شي، بديلاً محتملاً للتحالف مع واشنطن، في انتظار تداعيات حرب غزة التي يعتقد الرئيس الروسي بأنها لن تكون في مصلحة لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة، وستؤدي إلى تراجع نفوذ الأخيرة في الشرق الأوسط، وبالتالي قد تجعل الأنظمة الدائرة في الفلك الأميركي، تلقائياً، بحاجة إلى مثل تلك البدائل.
حرب أوكرانيا ليست دافعاً أساسياً لجولة بوتين، وهو ما يفيد بأن طبيعة هذه الأخيرة ليست دفاعية


ولكن، رغم الالتصاق الغريزي بالغرب، ولا سيما لناحية الحصول على ضمانات أمنية، سواء عبر شراء السلاح، أو الترتيبات المباشرة مع واشنطن، إلّا أن الأنظمة الخليجية تعرف أن الأخيرة ليست راغبة (وربّما ليست قادرة أيضاً) على فرض حلول لأزمة الشرق الأوسط على إسرائيل. وبالتالي، فإنها، أي الأنظمة، ستظلّ عرضة للاهتزاز كلّما اشتعلت هذه الأزمة. وعملياً، من المناسب جداً بالنسبة إليها أن يتمّ التوصل إلى حلّ يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، كما طرح بوتين، بعد عملية «طوفان الأقصى»، حين قال إن حرب غزة أظهرت فشل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومنذ بداية حرب غزة، تعامل الرئيس الروسي معها كفرصة لروسيا للعودة إلى الانخراط بصورة أكبر في السياسات العالمية، التي لا يمكن مواجهة واشنطن من دون لعب أدوار فيها. وعلى هذا الأساس، اتّخذت موسكو مواقفها من الحرب والتي أزعجت تل أبيب، ثمّ استضافت وفد حركة «حماس» في 26 تشرين الأول الماضي. ورغم أن معركة غزة كانت بنداً أساسياً في جولة بوتين، إلّا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تجاهلتها إلى حدّ كبير.
أما لماذا السعودية والإمارات بالتحديد؟ فلأن لروسيا تفاهمات مع الدولتين، أهمها التنسيق في «أوبك بلس»، وخصوصاً مع السعودية، حيث تمكّن البلدان عبر فرض الخفض الطوعي لإنتاج النفط (الذي مُدّد قبل أيام حتى نهاية الربع الأول من عام 2024) من المحافظة على أسعار مرتفعة نسبياً، في حين أنّ الإمارات تشكّل مركزاً دولياً لرجال الأعمال الروس الذين يسعون إلى التهرّب من العقوبات الأميركية. ويتفق بوتين، كذلك، مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، على العداء لحركة «الإخوان المسلمين». لكن القاعدة الأقوى لعلاقات موسكو مع كلّ من أبو ظبي والرياض، تتمثّل في موقف الأخيرتَين من حرب أوكرانيا، المتمايز كثيراً عن الأميركيين، والذي يعكس شعوراً دفيناً لديهما تَثبت صحته مع الوقت، بأن تلك الحرب ستنتهي بخسارة أميركا وحلفائها الغربيّين.
من المهمّ، عند الحديث عن العلاقات بين موسكو والرياض، استعادة التاريخ، وهو استُعيد في اللقاء بين بوتين ومضيفه السعودي، حين تحدّث الأول عن أنّ الاتّحاد السوفياتي كان أول دولة تعترف بالمملكة «بعد استقلالها»، فتدخّل الثاني، مصحّحاً «للمترجم»، بأن المملكة لم تكن مستعمَرة يوماً، وإنما أُعيد توحيدها. لكن تاريخ العلاقات شهد توترات كبيرة، كان سببها التبعية السعودية الكاملة للأميركيين، بما في ذلك قطع العلاقات بين البلدين لسنوات، و«حرب الجهاد» التي موّلتها الرياض ضدّ السوفيات في أفغانستان. ولكن، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تشهد العلاقات مع روسيا تطوّراً مستمراً، يعود في الأساس إلى أن واشنطن ظنّت حينئذٍ أنها ما عادت بحاجة إلى العداء السعودي لروسيا. واستتباعاً، صارت السعودية بحاجة إلى النظر حولها للبحث عن تنويع الضمانات، كبديل لتلك الأميركية المتراجعة.