القاهرة | تنطلق الانتخابات الرئاسية المصرية، اليوم السبت، وتستمرّ على مدى ثلاثة أيام، داخل البلاد، حيث يُجبر المصريون على التوجّه إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم لمصلحة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أصبحت الانتخابات في عهده بمنزلة «استفتاء» على شخصه. وثمّة على الهامش، ثلاثة مرشّحين آخرين هم أقرب إلى «كومبارس» وظيفتهم تكملة المشهد «الديموقراطي»، من بينهم اثنان يؤيدان - ضمناً - السيسي وسياساته، فيما سقف طموح الثالث أن يحلّ ثانياً خلف السيسي. أمّا هذا الأخير، فلا يتعامل بجدّية مع الاستحقاق، بعدما حسم نتيجته مبكراً لمصلحته، بإقصاء الناشط المعارض، أحمد طنطاوي، ووضع العراقيل أمامه كي لا يتمكّن من خوض الانتخابات.في نهاية آب الماضي، تلقّى علي (اسم مستعار)، وهو رجل خمسيني، رفقةَ آخرين من زملائه الحاصلين على امتيازات جذب إعلانات الـ«Out Door» بعقود من جهات حكومية في عدة مناطق، دعوةً مفاجئة إلى حضور اجتماع لدى جهة أمنية أخبرتهم بأن اللافتات الدعائية في فترة الانتخابات الرئاسية، ما بين تشرين الأول وحتى منتصف كانون الأول، ستكون محجوزة للسيسي وحملته الانتخابية. لكنّ علي وزملاءه أخبروا المسؤولين الأمنيين بأن ذلك لن يكون ممكناً، نظراً إلى وجود اتفاقات سابقة مع شركات وجِهات أخرى خلال الفترة نفسها، وإنْ كانت محدودة، وتحدّثوا عن إمكانية استغلال جزء من الأماكن الفارغة وتوظيفها. غير أن مسؤولي الأمن أصرّوا على أن اللافتات الدعائية للرئيس لها الأولوية المطلقة، وأن الشركات ستضع لافتات تعلن فيها عن نشاطها، ولكنها في الوقت ذاته تؤيّد الرئيس.
وعلى رغم عدم تأييد علي للسيسي، وتفضيله في حينه طنطاوي، إلا أنه استجاب مع زملائه لمطالب الجهات الأمنية، لتجنّب إنهاء العقود المبرمة بينه وبين الجهات الحكومية حول حقّ الوكالة الإعلانية التي «تحقّق مكاسب مالية محدودة، وخاصة في الفترة الأخيرة»، وتجنّباً أيضاً لـ«مزيد من الخسائر» لشركته التي تضطرّ بحكم نشاطها، للانخراط في تعاملات مع الحكومة. وبعد الاجتماع الأول بأيام قليلة، فوجئ علي وزملاؤه من أصحاب الشركات الأخرى، بدعوتهم إلى اجتماع أمني آخر، استمرّ هذه المرّة لساعات، تلقّوا خلاله تعليمات حول كيفيّة توزيع اللافتات الإعلانية على الطرق المختلفة، ليكتشف هؤلاء في وقت لاحق أن تكلفة طباعة الإعلانات ستكون على نفقتهم الخاصة، بعدما ظنّوا بدايةً أن خسارتهم ستقتصر على حجز اللوحات الدعائية الكبرى في خلال مدة الانتخابات.
على أن «مفاجآت» الأجهزة الأمنية للشركات الإعلانية لم تقتصر على الإنفاق على حملة السيسي فحسب، ولكنها امتدّت لتشمل حملة المرشح الرئاسي، حازم عمر، رئيس حزب «الشعب الجمهوري»، وهو المرشح الأول الذي ضمِن ترشّحه في مواجهة السيسي، في حال عزوف باقي المرشّحين عن خوض الانتخابات، إذ استطاع جمع التوكيلات الشعبية الكافية وموافقات تأييد نواب البرلمان لحزبه، كي يتمكّن من خوضها. وعلى هذه الخلفية، لم يعقد حازم عمر، وهو عضو في مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان)، سوى 4 مؤتمرات جماهيرية، وبأماكن محدودة وتواجد جماهيري «مدفوع» سلفاً، فيما ظهرت لافتات تأييد إعلانية متعدّدة تدعمه، تكفّل بها الأمن أيضاً.
تكمن أولوية النظام، بعد إجراء الانتخابات، في التوجه نحو تعديلات دستورية


وعلى الرغم من قرار حملة السيسي ترشيد النفقات إلى الحدّ الأدنى بعد اندلاع الحرب في غزة، إلا أنه لا شارع في مصر، على اتّساع مساحتها، يخلو من صور ولافتات للرئيس، مدوّن عليها اسم حزب «مستقبل وطن»، المسيطر على الأغلبية البرلمانية، إلى جانب حزب «حماة الوطن» الذي وضع لافتات في الأيام الأخيرة من الدعاية الانتخابية. وتُقدَّر قيمة الإعلانات التي يمكن مشاهدتها فقط في شوارع القاهرة بعشرات الملايين من الجنيهات، وهو رقم يتجاوز الموازنة المرصودة في القانون، والتي تحدّد سقف الإنفاق الدعائي بـ20 مليون جنيه. وفي حين لم تعلّق «الهيئة الوطنية للانتخابات» على الأمر، فسّر منسّق حملة السيسي، المستشار محمود فوزي، الدعاية المكثّفة، بـ«حب الجماهير» للرئيس، ورغبتهم في تأييده بوضع صوره في كل مكان، مشيراً إلى أن «لا علاقة للحملة بها».
أيضاً، لم يقتصر نشاط حزب «مستقبل وطن»، الذي تحرّكه الأجهزة الأمنية، على وضع اللافتات الدعائية باسمه من دون تحمّل تكلفة فعلية، ولكنه امتدّ ليشمل حضوراً «مأجوراً» لمواطنين وموظفين في جهات حكومية لمؤتمرات تأييد الرئيس، خلال فترة الدعاية الانتخابية، بأجر تراوح بين 100 و300 جنيه للفرد، بالإضافة إلى وجبة طعام مجانية. كذلك، يراوح سعر اليوم الواحد للحضور أمام اللجان الانتخابية بين 500 و1500 جنيه للأفراد من الرجال والسيدات، بالإضافة إلى وجبات إفطار وغداء للبقاء أمام اللجان، من الساعة الثامنة صباحاً وحتى التاسعة مساءً، بهدف إظهار «الإقبال الجماهيري». ويترافق هذا «التحشيد» مع حشد من نوع آخر تقوم به الجهات الأمنية والمؤسسات الحكومية لإجبار المواطنين على التوجّه إلى صناديق الاقتراع، وذلك عبر إعداد كشوف بالمصوّتين وغير المصوّتين في الانتخابات في مختلف الجهات الحكومية، ومنح المصوّتين، بشكل غير رسمي، إجازة ليوم خلال أيام الانتخابات.
كذلك، لا تتوقّف الأجهزة الأمنية عن محاولة دفع المواطنين إلى المشاركة والتصويت بالإجبار، والتقاط صورة للبطاقة الانتخابية عند التصويت لمصلحة السيسي. وطاول هذا الإجراء موظّفي الحكومة، وحتى العاملين في مجال الإعلام، مع تخصيص لجنة للإعلاميين للتصويت داخل مقر «مدينة الإنتاج الإعلامي»، خلافاً للجان مماثلة صوّتت في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة. والجدير ذكره، هنا، أن صور السيسي التي انتشرت في الشوارع كالنار في الهشيم في الأيام الأخيرة، كانت موجودة على عقارات قيد الإنشاء في «مدينة 6 أكتوبر»، حيث أُجبِر أصحاب العقارات، على طباعتها ووضعها مع وضع أسمائهم عليها للإعلان عن دعمهم للرئيس. وفي مدينة بدر، التي تبعد عدة كيلومترات فقط عن العاصمة الإدارية الجديدة، جال رجال الشرطة على محالّ الأطعمة في الأحياء المختلفة، ليوصوهم بضرورة مشاركتهم في التصويت.
وعلى الرغم من أن مرشّحَي الرئاسة الآخرَين، رئيس «حزب الوفد»، عبد السند يمامة، ورئيس «الحزب المصري الديموقراطي»، فريد زهران، شاركا في العديد من الفعّاليات والجولات على مستوى الجمهورية، إلا أن حملاتهما الدعائية تكاد تكون محدودة للغاية مع صور وُزّعت على استحياء في مناطق محدودة ومن دون أيّ دعم، فيما يعبّر مسؤولو حملة زهران عن أملهم في تحقيق المركز الثاني بعد السيسي.
وبحسب استطلاعات الرأي، يُتوقّع أن يحسم السيسي الانتخابات من الجولة الأولى بحصوله على نسبة أصوات تفوق الـ80%، لينال ولايته الثالثة حتى عام 2030، والتي كان حسَم إمكانية ترشّحه إليها سابقاً عبر الضغوط التي مارسها على الجهات الأمنية والقضائية، إذ عندما انتُخب السيسي رئيساً للمرّة الأولى في عام 2014، كان يفترض أن يغادر منصبه بحلول عام 2022، لأنه يمكن كلّ رئيس خوض الانتخابات لفترتَين رئاسيتَين فقط (مدة كل منهما 4 سنوات)، لكنّ ضغوط السيسي أثمرت إدخال تعديل دستوري، عام 2019، يمدّد ولايته إلى 6 سنوات، ويسمح له بالترشّح لولاية ثالثة (حتى عام 2030)، قد لا تكون الأخيرة أيضاً.
وفي المحصّلة، فإن التصورات السياسية لِما بعد الانتخابات ستكون مرتبطة بالتوجّه نحو تعديلات دستورية جديدة، مرتبطة أيضاً بمخرجات «الحوار الوطني» التي تتطلّب تعديلات قانونية ودستورية مع استئناف الجلسات التي جرى تعليقها مع بداية الانتخابات، والتي ستطالب بتعديل الدستور لعودة الإشراف القضائي على الانتخابات، إلى جانب عدم تقييد فترة تولّي الرئاسة، إذ تكمن أولوية النظام، بعد إجراء الانتخابات، في التوجّه نحو تعديلات دستورية، لأسباب كثيرة تأتي في مقدّمها الترتيبات الجارية لشكل البرلمان المصري في انتخابات 2025، وإعادة بناء الدائرة المقرّبة من الرئيس، والتي ستشهد تغييرات جذرية بعد الانتخابات، تمهيداً لبدء مرحلة جديدة لم تتّضح معالمها بعد.