أصبحت الموسوعة الرقمية الشهيرة، مركزاً للمواجهة التي تسعّرها حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنّها الكيان العبري على قطاع غزة. وما بدأ كزيادة في التعديلات على الصفحات، تحوّل إلى معركة شاملة للسيطرة على السردية المحيطة بعملية «طوفان الأقصى»، وتوسَّع ليشمل سردية كيفية اندلاع الصراع ونشوء الاحتلال. والأخطر من ذلك كله، إلقاء فشل القادة السياسيين في منع هجوم 7 أكتوبر على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عبر محاولات غامضة لتعديل وإضافة نصوص على مقالات قديمة تُسهِّل إلقاء تهمة الفشل على المؤسسة عبر «ويكيبيديا» العبرية
(أحمد قدّورة ـــ السويد)

في رواية 1984 الشهيرة التي نشرها الكاتب البريطاني جورج أورويل عام 1949، ينخرط الحزب الحاكم في عملية تحريف تاريخي للسيطرة على السردية والتلاعب بالوعي العام. تتمثل إحدى الآليات الرئيسية لتحقيق هذه الغاية، في وزارة الحقيقة. وينستون سميث، بطل الرواية، كان يعمل في الوزارة، حيث وجد مقالاً إخبارياً خضع لتعديلات بطريقة ترمي إلى محو أي أثر لعضو الحزب المشين. عندها، فكر سميث في أنّ الماضي لم يتغيّر فقط، بل دُمّر بالفعل. فكيف يمكنك إثبات حتى الحقيقة الأكثر وضوحاً عندما لا يوجد سجلّ خارج ذاكرتك الخاصة؟ ويُعد مفهوم تغيير السجلات التاريخية ومحو أي دليل على المعارضة أو التناقضات، موضوعاً رئيسياً في الرواية. وهو يوضح سيطرة الحزب الحاكم على المعلومات وقدرته على تشكيل الوعي العام عبر التلاعب بالسجلات التاريخية وأرشيف الأخبار.
بالعودة إلى عالم الواقع، كشف تقرير نشرته صحيفة «هآرتس» العبرية في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، للكاتب عمر بن يعقوب، أنه بعد يومين على عملية «طوفان الأقصى»، ظهر محرّر غامض في «ويكيبيديا» يُدعى «يعقوب». كان هدفه الأول هو الرئيس السابق لجهاز الأمن العام «الشاباك» يورام كوهين. أضاف «يعقوب» جملة تزعم دعم كوهين لصفقة شاليط، في إشارة إلى تبادل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011 مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني. مع تطور مجريات الحرب، واصل «يعقوب» فورته التحريرية، مستهدفاً المقالات المتعلّقة بشخصيات عسكرية واستخباراتية مثل عاموس يادلين، وتامير هايمان، ورونين بار، وأهارون حاليفا، ويارون فينكلمان، ويهودا فوكس. وحتى المسؤولون المتقاعدون، بمن في ذلك قادة الجيش الإسرائيلي ومديرو الشاباك، لم يسلموا من ذلك. ركزت تعديلاته على خلق رواية تحول اللوم بعيداً من السياسيين، وخصوصاً رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لتوجّه أصابع الاتهام إلى المؤسسة العسكرية.
استطاع «يعقوب» التعديل على المقالات، لأنّ «ويكيبيديا» موسوعة مفتوحة التحرير وتشاركيّة عبر الويب. يُسهم المستخدمون في المحتوى ويحرّرون مقالات حول مجموعة متنوعة من المواضيع. ويمكن لأي شخص يملك إمكانية الوصول إلى الإنترنت، تحرير معظم صفحات «ويكيبيديا»، بهدف إنشاء مصدر معلومات شامل يمكن التحقّق منه. ويمكن له تعديل أو حذف وإضافة أي محتوى (لهذا تعتبر أغلب الجامعات ويكيبيديا مصدراً غير موثوق للمعلومات). كما تتضمن المنصة صفحات نقاش لكلّ مقال، ما يسمح للمستخدمين بمناقشة المحتوى واقتراح التغييرات وحلّ الجدالات بطريقة شفافة وموجهة نحو المجتمع.
أثار «يعقوب» عاصفة من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي داخل كيان الاحتلال


أثار «يعقوب» عاصفة على وسائل التواصل الاجتماعي داخل كيان الاحتلال. منهم مَن رأى أنّ تعديلاته كانت جزءاً من مخطّط أكبر تبذله حكومة نتنياهو للتلاعب بالمحتوى على «ويكيبيديا». أدى التركيز على الشخصيات العسكرية بدلاً من السياسيين إلى شكوك حول محاولة ممنهجة لتحويل اللوم من الحكومة إلى المؤسسة العسكرية. وكشف مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي داخل الكيان عن أمثلة عديدة للتعديلات التي تدعم الرواية التي روّج لها رئيس وزراء العدو، من بينها إلقاء اللوم على المؤسسة العسكرية في هجوم 7 أكتوبر، وصولاً إلى تعديل مقالات قديمة صارت تُشير بشكل غير مباشر، إلى أنّ قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخبارية داخل الكيان جعلوا من عملية «طوفان الأقصى» أمراً ممكناً نتيجة إهمالهم السابق وعدم كفاءتهم وفهمهم الحقيقي.
لا بد من الإشارة هنا إلى أنّه بينما أعلن قادة العسكر والأمن والاستخبارات الإسرائيليين مسؤوليتهم علناً عن فشلهم في منع هجوم 7 أكتوبر، تبنّى نتنياهو نهجاً مراوغاً على قاعدة «لبعد الحرب إن شاء الله». والتعديلات على آرائه السابقة المنشورة على ويكيبيديا تسانده في ذلك. على سبيل المثال، أورد تقرير «هآرتس» قول نتنياهو أثناء مؤتمر لحزب «الليكود» في عام 2019، «إن أيّ شخص يريد منع إقامة دولة فلسطينية، عليه أن يدعم تقوية حماس». كان هذا النص موجوداً في إحدى المقالات على «ويكيبيديا» ثم تمت إزالته. ولأن الموسوعة الرقمية تسمح بالتعديلات، وهناك من يراقب ويتابع، أُضيف في وقت لاحق سطر على المقال يُفيد بأنّ نتنياهو وأنصاره يحاولون منذ اندلاع الحرب، حذف الأدلة على موقفه التاريخي من «حماس». بعدها حُذف السطر.
وكشفت تحقيقات صحيفة «هآرتس» أنه على الرغم من الشكوك المحيطة بتعديلاته، فإن «يعقوب» محرّر معروف في «ويكيبيديا» العبرية منذ مدة طويلة، وبدأ المساهمة فيها عام 2006. لكن اللافت أنه توقف عن المساهمة في الموسوعة لأكثر من عقد من الزمن، قبل أن يعود مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة.
إذاً، إنّها حرب على الحقيقة في عالم ما بعد الحقيقة، ساحتها موسوعة «ويكيبيديا». حرب «الأخ الأكبر» على السردية، وجهوده لتغيير التاريخ وطمس الوعي كي تحمي حكومة العدو اليمينية المتطرّفة نفسها من تبعات الفشل وعلى رأسها نتنياهو. وفي ما يعنينا نحن، يكشف هذا الأمر حجم ما ينتظر نتنياهو بعد انتهاء الحرب وخوفه على مصيره. ويعكس أيضاً الصراع السياسي الذي يتأجج تحت الرماد داخل كيان الاحتلال. وسط كل هذه الفوضى، والمحاولات البائسة، تمت استعادة معظم النصوص المحذوفة في المقالات وصارت بعض التعديلات أكثر توازناً من قبل مجتمع «ويكيبيديا»، الذي يعكس نوعاً ما التزام المنصة بالحياد. تتوافر «ويكيبيديا» بلغات عدة، ولكل لغة مجتمع من المحرّرين المتطوعين يسهمون في المحتوى. لكن وفق «هآرتس»، فإنّ «ويكيبيديا» العبرية أقرب إلى «ويكيبيديا إسرائيلية»، إذ تنطوي على تحيّز ضمني مؤيد للكيان، فيما معظم المحررين فيها كانوا ـــ على مرّ السنين ـــــ من اليمين، بمن في ذلك الصهاينة المتدينين وحتى الصهاينة الأرثوذكس المتطرفين. لكن هناك محاولات حديثة من مساهمين يساريين في دخول هذا المجتمع.



إسرائيل... كيان فصل عنصري
مع مواجهة منصة X العديد من المشكلات والضغوط وابتعاد المعلنين، كما مزاعم انتشار المعلومات المضلّلة عليها عن حرب «إسرائيل» على غزة. تصاعد عدد المستخدمين الذي يريدون متابعة مجريات الحرب على منصة «ويكيبيديا». وانضم جيمي ويلز، المؤسس المشارك لموقع «ويكيبيديا»، إلى جوقة الأصوات التي تنتقد إيلون ماسك لدوره في نشر معلومات مضلّلة على X. سلّط ويلز الضوء على إزالة ماسك للميزات الأساسية التي ساعدت في التمييز بين الصحافيين الحقيقيين والمزيفين. رداً على ذلك، نفى ماسك هذه المخاوف قائلاً: «من فضلك أصلح ويكيبيديا». وتصاعد الخلاف عندما عرض ماسك مبلغ مليار دولار على «ويكيبيديا» إذا غيّرت اسمها إلى «Dickipedia». وقال إنّ المعلومات الخاطئة المنتشرة على X أقل من تلك الموجودة على «ويكيبيديا»، ليعود ويلز ويؤكد على أنّ تصميم «ويكيبيديا» يسمح بالتعاون في التحقق من الحقائق وتصحيحها. إلا أن صفحاتها الخاصة بمجريات الحرب في نسختها الإنكليزية لا تزال أسيرة السردية الإسرائيلية في أماكن متعددة.
لكن تجدر الإشارة إلى أن كيان الاحتلال خسر المعركة على «ويكيبيديا» في ما يتعلق بتسمية «إسرائيل» بـ«كيان فصل عنصري». خسارة أكدتها صحيفة «هآرتس» في مقال نشر بتاريخ 29 تشرين الثاني 2020. إذ إنّ هناك مقالاً على «ويكيبيديا» منذ عام 2006، يلقى رواجاً كبيراً بين المستخدمين، ويقارن بين سيطرة «إسرائيل» على الضفة الغربية ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وتعزَّز انتشاره بعد خطة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للشرق الأوسط، والتزام بنيامين نتنياهو بضم أجزاء من الضفة الغربية. دفعت هذه الأحداث، ولا سيما مناقشة الضمّ، العديد من المنشورات على «ويكيبيديا» إلى وصف خطط الحكومة الإسرائيلية للسكان الفلسطينيين بإجراءات فصل عنصري، ما يتحدى الرواية القائلة إن «إسرائيل» تدعم حلّ الدولتين. حينها، رفض رئيس «مجموعة إسرائيل»، جاك سالتزبيرغ، المقال باعتباره مثالاً آخر على التحيّز ضد «إسرائيل» على «ويكيبيديا». وادّعى أنّ المنصة ذات تاريخ في تفضيل الموقف المؤيد للفلسطينيين، ما يجعل من الصعب إنشاء مقالات تصوّر الفلسطينيين بشكل سلبي. وكشف مقال «هآرتس» في حينها أنّ «الطبيعة الإشكاليّة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني» أدت إلى انقسام بين محرري «ويكيبيديا»، حيث انخرط المعسكران المؤيد لإسرائيل والمؤيد للفلسطينيين، في ما يوصف بـ «الجمود التحريري». ولا يزال موجوداً مقال «إسرائيل والفصل العنصري» على الموسوعة الرقمية، بعدما واجه محاولات حذف عديدة منذ إنشائه في عام 2006، مع تركيز الإضافات عليه على الجدل الدائر حول المقارنة مع جنوب أفريقيا بدلاً من تأييد وجهة نظر محددة. لكن هناك مناقشات مستمرة حول عنوان المقال ومضمونه. ويجادل المحررون المؤيدون لـ«إسرائيل» ضدّ المقال، معتبرين أنه يدعم رواية مناهضة لـ«إسرائيل».