بحضور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اكتست قمة دول «مجلس التعاون الخليجي» الست، التي التأمت في الدوحة، في الخامس من الشهر الجاري، صفة قمة المحورين التركي والسعودي، اللذين يتراوح موقفاهما بين الحياد السلبي والحياد الإيجابي، في مواجهة آلة القتل الأميركية - الإسرائيلية ضد قطاع غزة ومقاومته.
أولاً: محورية العلاقات مع واشنطن
يتفق هذان المحوران بشأن مركزية العلاقات مع واشنطن والحلف الأطلسي، ويجدر وضع التباينات والتجاذبات التركية - الأميركية، أو السعودية - الأميركية ضمن تلك الأولوية. وبالنظر إلى مكانة تركيا الدولية وثقلها السكاني والاقتصادي والسياسي، وموقعها الجغرافي، نجدها تظهر تململاً أكبر من غيرها أمام ضغوط واشنطن، لكنها لا تلبث أن تعود إلى الخط الرئيسي الذي يتبع أثر زعيم «الأطلسي». وإذا كانت تركيا تحلم يوماً ما بالتحرّر من قبضة الحلف، بل وقيادة العالم التركي أو الإسلامي أو قوى الإسلام السياسي، نظراً إلى تاريخها الإمبراطوري، فإن مجمل الغضب السعودي على واشنطن يأتي من انشغال القوة الكبرى عن مملكة ترى نفسها في حيرة من أمرها، وعن ما قامت به لحليفها الكبير، وتستحق مقابله مزيداً من الرعاية، والسند العسكري والتكنولوجي، وتخصيب اليورانيوم، والثقة، لا التوبيخ والتنمّر وترداد الأحاديث عن تراجع مكانة الخليج.

ثانياً: الموقف من الأراضي المحتلة والتطبيع والمقاومة
دعك من التفاصيل. المحوران المذكوران يتفقان حول توصيف الوضع في الأراضي المحتلة، وآليات علاجه بالحوار والمفاوضات التي ثبت أن هدفها تمكين الكيان من المضي في خططه في قضم ما بقي من فلسطين.
مواقفهما «إيجابية» من التطبيع، فلا يربطانه بإقامة دولة فلسطينية، ولا بوقف المجازر، ولا بتحقيق العدالة للفلسطينيين. ويختلفان بشأن حركات الإسلام السياسي «الإخوانية»، إذ تجد «حماس» احتضاناً سياسياً واجتماعياً ونفسياً وعلمياً من قبل المحور التركي، وهو أمر إيجابي، في ظل عالم عربي وإسلامي قاسٍ على المقاومة وحركاتها. لكن المحورين يتخذان، عموماً، موقفاً سلبياً من الحركات المنضوية في محور المقاومة.

ثالثاً: مواقفهما من إيران
لم يتردّد المحوران في السابق في الهجوم على أعضاء في المحور الإيراني، حتى باستخدام السلاح والتحالف مع واشنطن، ضد العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن. ورغم الإلحاح، لم يُجرِ الحلفان تقييماً لأدوارهما في تحطيم سوريا، بقيادة واشنطن، التي تدمّر راهناً غزة، لا بل ما زلنا نسمع أن خطأ الولايات المتحدة أنها لم تسقط الرئيس بشار الأسد وتحتل سوريا، في ذروة الأحداث الدامية هناك في العقد الماضي. لا شك في أن من حق المحورين دعوة سوريا أو أي دولة أخرى، عبر البيانات والنقاشات، إلى تغيير سلوكها الإقليمي، لكن أن يدعو العرب غيرهم إلى احتلال حكوماتهم وإسقاطها، حتى بعد مئة عام من التجارب الاحتلالية، لهو أمر عصيّ على الفهم. راهناً، المحوران ميّالان إلى إقامة علاقة قابلة للنمو مع إيران. الفرق أن المحور التركي ذاهب في علاقة غير قابلة للانكسار، وهي سمة قديمة مع تركيا، فيما صفة عدم الانكسار حديثة العهد مع قطر، وتبلورت بعد حصار 2017، الأمر الذي يسمح بالقول إن العلاقات بين المحورين التركي والإيراني ستستمر في الصعود حتى إذا تفجّرت مشكلات. أما المحور السعودي، فما زال لديه الاستعداد للتراجع عن مكاسب العلاقات مع طهران، أمام أي إغراء أميركي جاد.

رابعاً: المحور السعودي... الحياد السلبي
لا يتعلق الأمر بالإهمال، أو عدم المبالاة، أو نقص في المعلومات، لدى الأطراف المنضوية ضمن المحور السعودي، ولكنها ترى الصراع يجري بين خصمين، الأول لا يمكن معاداته، وهو إسرائيل، لأن ذلك جالب لغضب أميركا، والثاني لا يمكن مساندته، وهو «حماس»، فالانتصار لها يعني تغذية إيران، المعادية لأميركا، والخصم التاريخي للسعودية. ومساندة «حماس» تُعدّ «غدراً» بالسلطة الفلسطينية، الشريكة لهذا المحور والمعبّرة عنه إزاء ما يجري قبل وبعد السابع من أكتوبر، وخيانة لمقولات التسوية و«السلام» والتطبيع، وانتصاراً لنظرية السلاح والمقاومة، التي يروجها «حزب الله»، وقبله جمال عبد الناصر، وانسياقاً وراء مقولات إيران عن أولوية التحرير والاستقلال، وبناء منظومة أمنية إقليمية، بعكس عقيدة هذا المحور المستندة إلى «الأمن المستورَد» المرتهن للقواعد الغربية في مصر والأردن والخليج.
خامساً: لماذا لا ينتصر المحور السعودي لإسرائيل ضد «حماس»؟
في ظل الدموية التي لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ عقود، فإن الدعم العلني لإسرائيل يعدّ مناقضاً لأبجديات التوازنات في المنطقة. ثم إن النتائج المترتبة على الحياد السلبي تكفي وزيادة للحفاظ على العلاقة مع واشنطن والمنظومة الغربية. فقد دان هذا المحور «حماس»، ونأى بنفسه عن نضالها العسكري والسياسي، ودان مدّها بالخيل والرجال، واعتبر أعمالها بربرية، وساواها بـ «داعش». والقيام بخطوات إضافية بمنزلة إفراغ مزيد من الملح على طبخة جاهزة.

سادساً: تفهّم أميركي
يتفهم الأميركي الموقف العربي الرسمي، ويدرك أن إلغاء قمة عمّان بين المحور السعودي والرئيس جو بايدن، في 18 تشرين الأوّل الماضي، كان خطوة شكلية وضرورية لامتصاص الغضب الشعبي الداخلي، ثم إن الاجتماعات بين الجانبين لم تتوقّف بعد ذلك على مختلف المستويات، ومجمل دول العرب كرّرت مقولة بايدن عن «حق الكيان في الدفاع عن نفسه»، وبعد خراب البصرة بدأت تتحدّث عن حدود لهذا الحق. بالنتيجة، يتصرّف هذا المحور وكأن القتلى الذين يُسفك دمهم ليسوا في الجوار المصري، وإنما في المريخ. وإذا ما دفشت إسرائيل بوابة رفح، ستكتفي مصر بشن حرب إعلامية قصيرة، وتسحب سفيرها احتجاجاً، ولن تنسى أن تعيده بعد عدة أسابيع أو أشهر، فيما لا يملّ الخطاب الأردني من تكرار كلام عالي السقف، يتجاهله الإسرائيلي كلياً، لأنه موجّه للاستهلاك المحلي.

سابعاً: المحور التركي... الحياد الإيجابي
كثير مما ذُكر أعلاه عن المحور السعودي، يصحّ في توصيف موقف المحور التركي. فحركة أنقرة ثقيلة، وهي أميَل إلى اتباع خطوات السعودية ومصر، في الوقت الذي ترفض فيه اتخاذ إجراءات جادة سياسية واقتصادية، فيما ما زال الغاز الآذربيجاني الواصل عبر تركيا يغذّي الكيان. وأقصى ما يقدّمه ذلك المحور هو تسهيل التواصل بين «حماس» والكيان، وهذا لا يليق بالعرب والمسلمين وتركيا وقطر.

ثامناً: انسحاق المحورين
المحوران المذكوران يمثّلان ثقلاً رئيسياً في العالم العربي والإسلامي. وقتل الفلسطينيين، بأي معنى أردت توصيف الصراع في غزة، يُعدّ هزيمةً لهما ولكل العرب والمسلمين، ودلالة على انسحاقهما أمام أميركا التي تُظهر امتهاناً كاملاً للمحورين ودولهما وقياداتهما وشعوبهما، ولا تعبأ بنتائج اجتماعات الدوحة، والدعوات إلى وقف إطلاق النار. فقد رفع هذا «الحليف الموثوق» و«الشريك الأمني» الفيتو ضد تلك المناشدات، وانتصر بالمطلق للإبادة الجماعية القائمة في غزة.