[رسالة كتبها أسير فلسطيني لدى سجون الاحتلال الإسرائيلي في اليوم الـ35 على بداية حرب «طوفان الأقصى»]
اليوم الخامس والثلاثون على الحرب، على الحالة الأكثر تعقيداً وأكثر تصعيداً، والأكثر حزناً، غابت عنا كل مشاهد الحزن، لكن شعرنا بها، بين السطور وفي بعض الأخبار المُسرّبة هنا وهناك، حالة الألم والاعتصار اليومي، التلذّذ بالموت، الأعداد الخيالية للشهداء، طريقة الاستهداف الخارجة عن كلّ الأعراف وليس فقط القوانين الإنسانية الدولية. مستشفيات: الأهلي، والمعمداني، والأندلسي، والأقصى، والمساجد والكنائس، الحجر والبشر وكل شيء يسير، مُستهدفٌ، كل الأشياء استوقفتنا.
في مشهد مختلف، أو ليس مختلفاً، فهو متكرّر لكن هذه المرة بصورة رهيبة وعصيبة، وتصعُب ترجمتها، مشهد اغتيال عائلة المراسل وائل الدحدوح، الدموع الإنسانية، لا يوجد أكثر من هكذا إرهاب على المباشر، وكيف هم الغزيّيون يستقبلون خبر استشهاد عائلاتهم، هذان هما الألم والحزن.
بعضُنا، والكثير منّا، دخلوا السجن يافعين، بكل طاقة وحب، تحوّلوا في ثنايا الزمن إلى شباب وشيب، وكهلة ومرضى، متعبين، وحزينين ومنهكين، وتوّاقين إلى صوت الأقفال وهي يتفكّك عنها الصدأ، لتُكسر بالحريّة والحب.
نعم، لسنا بخير، الكلّ ليس بخير، منذ أكثر من 35 يوماً وصعوبة العذاب تزداد، وقهر الموت يأتي. مشاهد الحقد وصوت البكاء ومشاهد الإذلال لا تختفي من الذاكرة. الصمت يخيّم على الجميع، والكل ينتظر الحريّة القريبة. لم يعد شيء هنا بخير، نعيش في أسوأ حالة على مر تاريخ السجون والاحتلالات. نعم انتزعوا منا كلّ الأشياء، وما تبقّى في قلوبنا هو الصبر والصمود والثبات. لم يبقَ شيء إلا ومنعوه، أو حرمونا منه. الصُّراخ في كل مكان، مشاهد الضرب المرعبة للأسرى تعمّ كل الأقسام. الكلاب في كل مكان. جاهزون لأي اقتحام أو قمع. مشاهد الاستفزاز لا تفارق وجوههم، صباحاً ومساء. ينتظرون منا كلمة أو تعليقاً، كي يبدأ مشهد الضرب والسلخ والغاز. لا دواء ولا كهرباء، ولا ماء نظيف، ولا طعام. قد ضاقت بنا الدنيا، كلنا، ضاقت كثيراً.
وفي كل يوم نرى وجوهنا شاحبة، سوداء، مليئة بالحزن، الحد الأدنى من متطلبات هذه الحياة محرومون منه، البرد بدأ ينهش في عظامنا. لا طاقة فينا، سوى الأمل والإيمان بالنصر. لم ترَ الشمس أجسادنا منذ الحرب، والجميع متلهّف إلى خبر سعيد، وبصيص أمل.
نعم، هم يقتلوننا ونحن أحياء، يحاولون إفراغنا من كل هذه المضامين الإنسانية والوطنية. وفي كل يوم نصحو على إجراءات وننام على أشياء أعقد. في هذه الظروف، اليومُ بأكثر من سنة، والكل متلهّف إلى خبر عن الأهل والأحباب، عن الحال والأحوال. الطاقة الوحيدة المتبقية لنا كلنا هي المحامون، في نقل الخبر، والحقيقة، وهذا أصبح بكل صعوبة، كل الأشياء معقّدة.
لكن، سنبقى رافعين راية الثبات، والصمود، ولن نترك هذا البيرق، وهذا ما تبقّى لنا، وسوف نخرج أحراراً ومحرّرين. ومع كل خبر نسمعه عن المقاومة نزداد ثباتاً وطاقة. ومع كل فشل في العملية البرية الإسرائيلية، نزداد فخراً ونصبح أقرب إلى الانفراج والحريّة والنصر. وكل هذه المشاهد ستصبح مكتوبة على شكل روايات وقصص وتُنشر إلى كل العالم. وكم من حكاية نُسجت في هذه الحرب داخل السجون، وكم من مشهد شوهد بكل حزن وموت وإهانة. كونوا بخير... ونلتقي قريباً أحراراً رافعين الرؤوس.
يقول عبد الرحمن منيف في روايته «شرق المتوسط»: «أريدك أن تكون حاقداً وأنت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب أن تحوّل أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، أمّا إذا استسلمت للحزن فسوف تُهزم وتنتهي، سوف تُهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية». وهذا فعلاً ما آمن به الشعب الفلسطيني؛ فرغم محاولات الاحتلال الحثيثة لتدجين المقاومة، وفلسفاتها المختلفة ما بين كي الوعي، وغيرها، لم يستطع الاحتلال كبت جماح المقاومة وقتل الثائر الحر. فالثائر لا يموت، والمقاومة نهج وفكرة وليست حالة مرحلية.
نعم، تحوّلت الأحزان إلى رد فعل مقاوم، لتستردّ الطفل الغائب عن حضن أمه، ولتستعيد الشجرة وظلها، والأرض وأحجارها، فكان السابع من أكتوبر الهزيمة الكبرى التي لحقت بالكيان الصهيوني، وجعلته أشبه بأي ثور هائج يحرق كل ما هو أمامه. وليس أدلّ على ذلك من دعوة وزير التراث الإسرائيلي إلى إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة لحرق كلّ من فيها، بمن فيهم الأسرى الإسرائيليون.