رام الله | لم يكن أمام الفلسطيني محمد سمار، من بلدة اليامون في محافظة جنين، إلا أن يحمل طفله أحمد (13 عاماً)، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، بين يديه، ويسير به مشياً على قدمَيه، ليوصله إلى «مستشفى جنين الحكومي»، بعدما مَنعت آليات الاحتلال مركبات الإسعاف من الوصول إلى المكان، وفرضت حصاراً مطبقاً. إلا أنه لم يكد سمار يصل إلى المستشفى، حتى أُعلنت بعد دقائق وفاة ابنه. وسُجّلت هذه الحادثة في خضمّ العملية العسكرية الإسرائيلية الأحدث في مدينة جنين، والتي بدأت في الثالثة من فجر الثلاثاء، حين اقتحمت العشرات من آليات العدو وجرافاته الضخمة، أحياء المدينة، وباشرت في أعمال التجريف والتخريب والتدمير، فارضةً حصاراً على مستشفيات المدينة، إلى جانب تحليق المُسيّرات، ونشْر القنّاصة على أسطح المنازل.واجتياح جنين، أمس، هو الخامس عشر من نوعه منذ بدء العدوان على غزة، حيث قدّمت المدينة 65 شهيداً، 4 منهم ارتقوا صباح أمس، إثر قصف صاروخي نفّذته مُسيّرة في البلدة القديمة في المدينة «السيباط»، وهم: رفيق الدبوس، ومحمود أبو سرور، وبكر زكارنة، وثائر أبو التين، بالإضافة إلى الطفل أحمد سمار، قبل أن يلحق بهم الشاب فؤاد عباهرة (36 عاماً) الذي أصيب خلال المواجهات، فيما منعت قوات الاحتلال طواقم الإسعاف من الوصول إليه، إلّا متأخرةً. ووسط استمرار العملية في جنين على مدى أكثر من 16 ساعة، ارتفعت حصيلة الشهداء إلى 7، باستشهاد الفتى رشاد محمد تركمان برصاص الاحتلال. وكان لافتاً شنّ المُسيّرات الإسرائيلية غارة بالصواريخ داخل البلدة القديمة، التي لم تشهد اشتباكات عسكرية كثيفة أخيراً، على غرار ما يجري في مخيم جنين. وشهد المخيّم ومحيطه مواجهات عنيفة بين المقاومين وجنود الاحتلال، نجح الشبان في خلالها في تفجير عشرات العبوات الناسفة بالآليات العسكرية، وسط تبادل لإطلاق النار الكثيف لساعات على أكثر من محور قتال، فضلاً عن عمليات القصف بالطائرات المُسيّرة والحربية، بعدما باتت هذه الأخيرة جزءاً أساسيّاً من كل عملية عسكرية يشنّها جيش العدو في جنين بشكل خاص، وفي الضفة بشكل عام.
وفي تفاصيل ما جرى أمس، أفاد شهود عيان، «الأخبار»، بأن أكثر من 200 آلية عسكرية شاركت في العملية العسكرية الإسرائيلية التي طاولت أحياء ومناطق عدة في المدينة ومحيط المخيم، وتركّزت في حي الجابريات أعلى المخيم، وحارة الدمج، حيث استولت القوات الإسرائيلية على بعض منازل المواطنين، وفجّرت مركبة لأحد المواطنين ومنزلاً، وعاثت خراباً ودماراً في الشوارع المحيطة بالمخيم جرّاء التجريف. وأضافت المصادر أن قوات الاحتلال فرضت حصاراً شديداً في تلك الأحياء، وشنّت حملة اعتقالات واسعة طاولت أكثر من 70 مواطناً، بينهم سيدة، خلال مداهمات واسعة في المخيم، لافتةً إلى أن آليات العدو لم تغادر طيلة العملية العسكرية مداخل المستشفيات، التي فرضت حصاراً عليها، وتحديداً «مستشفى جنين الحكومي». كما اعتدت على الطواقم الصحافية، ليصاب الصحافيان، رنين صوافطة وعمرو مناصرة، جرّاء استهدافهما بشكل مباشر بقنابل الغاز، فيما حاولت آليات الاحتلال دهس آخرين.
فتحت إسرائيل باباً جديداً من التصعيد السياسي، عبر تصريحات أدلى بها نتنياهو، أعرب فيها عن استعداده لمحاربة قوات أمن سلطة رام الله


كذلك، واصل الاحتلال استباحة بقية مدن الضفة الغربية وبلداتها، حيث كثّفت قواته أمس اقتحاماتها، التي كان أبرزها في بلدة سلواد شمال شرق رام الله، حيث أُصيب شاب بالرصاص الحي في البطن واعتُقل 21، في عملية عسكرية استمرّت لساعات، وتخلّلها اقتحام للمنازل وتوزيع منشورات تحذّر الأهالي من المشاركة في أيّ نشاط أو فعالية لحركة «حماس»، بينما سُجّلت مواجهات رشق خلالها الشبان والفتية بالحجارة والزجاجات قوات العدو، التي ردّت بإطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز السام على المواطنين. كما اقتحمت قوات الاحتلال، مساء أمس، بلدة دير أبو مشعل قرب رام الله، حيث اندلعت مواجهات عنيفة أُصيب فيها شاب وطفل، تُركا لينزفا لوقت طويل. وفي طولكرم شمال الضفة، اندلع، مساءً، اشتباك مسلح بين مقاومين وقوات الاحتلال قرب بوابة «نتساني عوز» الإسرائيلية. وكانت القوات الإسرائيلية قد اعتقلت، بين مساء الإثنين وصباح الثلاثاء، 51 مواطناً على الأقل من مدن وبلدات عدة، بينهم أسرى سابقون، يضاف إليهم نحو 70 معتقلاً على الأقل في جنين، وآخرون في سلواد.
وفي ظلّ التصعيد المفتوح والواسع ميدانياً في الضفة، فتحت إسرائيل باباً جديداً من التصعيد السياسي، عبر تصريحات أدلى بها رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، حين قال إن كيانه «مستعدّ لمحاربة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية»، مضيفاً أن «إسرائيل جاهزة لسيناريو تَقلب فيه فوهات البنادق، وتوجّهها نحو قوات السلطة»، في ما يُعدّ أول هجوم علني مباشر له على هذه الأخيرة. وإذ لا يفوّت نتنياهو فرصة لتأكيد رفضه عودة السلطة إلى القطاع، فهو كرّر القول إن «غزة ستبقى تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية بعد الحرب»، وإنه «سيقيم إدارة مدنية هناك لا تشكّل أيّ خطر على إسرائيل»، متابعاً أنه سيمنع إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، وأن القطاع لن يكون «فتحستان» أو «حماسستان».
وإذ يضع البعض تصريحات نتنياهو ضدّ سلطة رام الله في خانة سعيه إلى تحقيق مكاسب سياسية، سواء على صعيد وضع ائتلافه الحاكم بعد انتهاء القتال وأهمية عدم السماح بتفسّخه، أو وضعه السياسي هو شخصياً واستغلاله حالة الحرب القائمة كدعاية انتخابية له، فإن رسالته وصلت في الواقع منذ زمن إلى السلطة الفلسطينية، التي حاولت في السابق تجاوزها أو الالتفاف عليها. ولكنها اعتبرت هذه المرّة أن ما قاله نتنياهو «يعبر بشكل واضح عن نواياه المبيّتة»، مشيرةً إلى وجود «قرار إسرائيلي بإشعال الضفة الغربية، وذلك استكمالاً للحرب الشاملة التي تشنّها سلطات الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وأرضه، ومقدّساته في قطاع غزة، والضفة الغربية، بما فيها القدس»، مضيفة أن «إنشاء سلطة مدنية تابعة للاحتلال في قطاع غزة مدان ومرفوض، ويشكّل تحدّياً للمجتمع الدولي برمّته، وللمواقف المعلنة للإدارة الأميركية، التي أعلنت رفضها لإعادة احتلال قطاع غزة أو اقتطاع أيّ جزء منه». ومن جهتها، قالت حركة «حماس» إن تصريحات نتنياهو «تؤكد نيته استهداف شعبنا في غزة والضفة، وعدم اكتراثه بالتسوية السياسية، وسعيه إلى ترسيخ الاحتلال، بخاصة في القدس والمسجد الأقصى»، داعية السلطة الفلسطينية وأجهزتها إلى تجاوز اتفاقيات «أوسلو»، ووقف التنسيق الأمني، والانتقال إلى المقاومة الشاملة.