ليس صحيحاً أن الوحشية الإسرائيلية التي تتجلّى في قطاع غزة، تجري بضوء أخضر أميركي وغربي فقط. ربما الإمداد بالذخائر، والدعم السياسي والإعلامي فقط يأتيان من أميركا والغرب. لكنّ الواقع هو أن الحرب تجري في ظل صمت النظام العالمي كلّه الذي يشمل أيضاً روسيا والصين، والذي لا يجرؤ أحد فيه، كما يبدو، على الوقوف في وجه هذا العدوان. هنا، لا يعود مستغرباً عجز الأنظمة العربية عن الفعل، وإن كان ليس مفهوماً تآمر بعضها على الفلسطينيين. الصورة الحالية كالتالي: إسرائيل تخسر على مستوى الميدان من خلال فشلها في تحقيق الأهداف والكلفة العالية على جيشها من حيث القتلى والجرحى، وتخسر على مستوى الرأي العام العالمي. وهذان هما السببان اللذان يقفان وراء التحوّل في موقف الرئيس جو بايدن الذي قد يمهّد لإنهاء الحرب على القطاع.ثمّة خطأ يكرّره جزء كبير من الرأي العام في العالم العربي، ربما لأسباب عاطفية في كثير من الأحيان، بوضع رهانات غير واقعية على دول كروسيا والصين. والخطأ ناجم عن ميل طبيعي إلى ملء فراغ لا تتحمّل مسؤوليته لا بكين ولا موسكو. هذا الفراغ يجب أن تملأه جهة معنية مباشرة بالصراع، مثل المقاومة، على أن تتعامل هي مع الجهات الأخرى كالعاصمتين المذكورتين، وفق المصالح المتبادلة. حتى ذلك الحين، ستظل الصين وروسيا تبحثان عن مصالحهما، والتي يأتي ضمنها موقفهما الثابت في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية. ولكنهما لن تتبرّعا بفعل ينجد الفلسطينيين في غزة. فالدولتان لا تسعيان إلى تغيير النظام العالمي الحالي، الذي تحتل الحركة الصهيونية العالمية موقعاً مؤثّراً فيه، لجعله نظاماً أكثر عدالة إزاء المظلومين في العالم، وإنما تعملان لتعديل وزنيهما فيه. وهنا، يجب ألا نستغرب إذا كانت لإحدى الدولتين، أو لكلتيهما، مصلحة وازنة مع إسرائيل نفسها.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن العلاقات بين الصين وإسرائيل لم تتأثّر بما يجري في غزة نهائياً. حتى إنه يمكن ملاحظة أن الدبلوماسية الصينية شبه غائبة عن هذا الموضوع، وكأنما ما يجري في القطاع بالنسبة إلى بكين، يحدث في عالم آخر، مع أنه عالم تسعى إلى أن تستفيد من التجارة معه ومنافسة القوة الأميركية فيه. ولأن الصين ترى أنها غير مضطرّة لاتخاذ مواقف علنية تغاير مصالحها الحقيقية، التي بلا شك يُعتبر التعامل مع إسرائيل جزءاً منها، فإنها تعمد إلى تجاهل نسبي للمسألة برمّتها، إلا حينما تُطرح في المنتديات العالمية التي تحضر فيها، حيث تكرّر مواقفها الثابتة، أو تصوّت حسبها، كما حصل في جلسة مجلس الأمن الأخيرة حين أسقط الفيتو الأميركي مشروع قرار لوقف النار في غزة. وللمقارنة فقط، عندما تكون المصالح الأمنية على المحكّ، في تايوان أو بحر الصين الجنوبي، تصبح اللهجة الصينية في التعامل مختلفة، ويدخل عنصر القوة عليها.
حتى بالنسبة إلى روسيا التي لها مصالح أمنية مباشرة في الشرق الأوسط، لا يختلف الأمر كثيراً في العلاقة مع إسرائيل. فموسكو أيضاً تأخذ كثيراً تلك العلاقة في الاعتبار، على رغم الخلاف الناشئ منذ حرب أوكرانيا. ويبدو أن الهجوم الإسرائيلي على روسيا بسبب موقفها الأولي من حرب غزة، قد نجح في إحداث تغيير فيه. تمثّل ذلك في كلام وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي قال إن موسكو تتواصل حصراً مع الجناح السياسي لحركة «حماس»، وأن هذه الاتصالات مكّنت من التوصّل إلى اتفاق إطلاق محتجزين، وهو ما تفاعلت معه إسرائيل إيجابياً. ينطوي ذلك الكلام على لهجة استرضائية لإسرائيل، ولا سيما أنه يأتي بعد مكالمة هاتفية دامت 50 دقيقة بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الأسبوع الماضي، تقول الرواية الإسرائيلية لها إن «نتنياهو عبّر خلالها عن استيائه من المواقف التي أدلى بها الممثلون الروس في الأمم المتحدة والمحافل الأخرى ضد إسرائيل»، في حين أن رواية الكرملين تقول إن بوتين شدّد على «ضرورة ألا تعود العمليات العسكرية في غزة بعواقب وخيمة على المدنيين العُزَّل في القطاع»، وهي كذلك لهجة ضعيفة، وربما هي أقل من البيانات الأميركية (السابقة للتحوّل في موقف بايدن) التي كانت تطالب العدو بتجنّب إيذاء المدنيين.
لا يعني ذلك أنه يجب عدم النظر إلى الصين وروسيا كحليفين محتملين، وإنما يعني أنه يجب ألا ننتظر منهما التطوّع بمواقف ليست مفروضة عليهما. ثمة مثل قريب على الكيفية التي يمكن أن تسير عليها العلاقات، وفق المصالح المتبادلة، حصل عند زيارة الرئيس الصيني، شي جينبينغ، للسعودية العام الماضي، وصدور بيان يدين ما سماه «الاحتلال الإيراني» للجزر الإماراتية الثلاث في الخليج، وهو بيان أثار سخط الإيرانيين، وربما كان أحد دوافع النشاط الصيني للتوصّل لاحقاً إلى الاتفاق السعودي - الإيراني الذي مثّل تحوّلاً كبيراً في العلاقات بين قطبَي العالم الإسلامي.
في المقابل، ثمّة دول غربية أخذت مواقف متقدّمة داعمة للقضية الفلسطينية نتيجة ضغوط داخلية من الرأي العام عليها، وهو أمر غير متاح، مثلاً، في روسيا والصين. أما الرهان الفلسطيني أو العربي على العدالة، فيجب ألا ينعقد على هذا النظام العالمي، ولا على أي دولة فيه، لأن الدول، بالتكوين، قائمة على تحقيق المصالح لا العدالة، إلا في حالات كجنوب أفريقيا التي كان شعبها قد تأثّر بتأييد إسرائيل المطلق لنظام الفصل العنصري السابق.