يستمر منسوب الدعم الأفريقي لفلسطين، على المستويَين الرسمي والشعبي - حتى في قلب الدول التي تتمتّع بعلاقات تاريخية مع الكيان -، في الارتفاع، وهو ما اتّضح نسبياً في الاتجاه التصويتي الأفريقي في الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار الأخير (12 الجاري) الداعي إلى وقف إطلاق النار؛ إذ اعترضت عليه دولة أفريقية واحدة، هي ليبيريا، التي تشكّلت بفعل جهود جمعية الاستعمار الأميركية في مطلع القرن الـ19، فيما امتنعت عن التصويت كلّ من كيب فيرد، الكاميرون، غينيا الاستوائية، مالاوي، جنوب السودان وتوغو (وهي دول تربطها جميعاً صلات أمنية واقتصادية وطيدة بإسرائيل)، فيما أيّدت القرار بقية الدول الأفريقية الأعضاء. وفي خضمّ ذلك، انطلقت، منتصف الشهر الحالي، موجة متوقّعة في شرق القارة وغربها، لمواجهة المدّ الشعبي الكبير المؤيّد للقضية الفلسطينية، تحت ستار مخاوف تقليدية من مثل التهديدات الإرهابية التي باتت ظاهرة مزمنة في القارة، في حين ربطها مراقبون (ولا سيما في تنزانيا وأوغندا وكينيا بدرجة أقلّ) بحاجة الدول الأفريقية «الملّحة» إلى مساعدات إسرائيل الفنية في قطاعَي الزراعة والأمن.
نيجيريا وفلسطين: نحو احتواء الغضب الشعبي؟
تنامي الغضب الشعبي في نيجيريا ضدّ العدوان على غزة، تزامن مع تعليق «مفوضية الحجاج المسيحيين النيجيرية» زياراتها لإسرائيل منذ منتصف تشرين الأول الماضي، ثمّ اتهام «المجلس الأعلى للشريعة» في نيجيريا، الولايات المتحدة، بالتورط في الحرب عبر دعمها إسرائيل، ودعوته مجلس الأمن الدولي إلى اتّخاذ موقف حازم في هذا الشأن. كذلك، اختارت «منظمة العالم الإسلامي»، نيجيريا، قبل نحو شهر، للمشاركة في وفد خاص يقود جهداً دولياً، نيابةً عن المنظمة، بغية «الضغط لبدء عملية سياسية حقيقية وجادّة لتحقيق سلام دائم وشامل» في فلسطين. وتضاعفت، منتصف الجاري، جهود المنظّمات الإسلامية في نيجيريا للضغط على رئيس البلاد، بولا تينوبو، لانتهاج سياسة أكثر قوّة إزاء الحرب (بحسب منافذ إعلامية نيجيرية بارزة). واتساقاً مع هذا التوجّه، دعا العالم عبد الرزاق سلمان، المدير التنفيذي لـ«المؤتمر الإسلامي العالمي» (وصاحب الأنشطة الخيرية الإسلامية الموسّعة في نيجيريا عبر جمعية «بيت أبي بكر الصديق الخيري») وعضو «اتحاد العلماء المسلمين»، تينوبو والحكومة النيجيرية و«الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» (إكواس)، إلى الوقوف «في وجه العدوان الصهيوني».
وعلى رغم كون نيجيريا واحدة من الدول الأفريقية الكبيرة ذات المواقف الواضحة إزاء القضية الفلسطينية وعدالتها، فإن موقفها الحالي من الحرب يتّسم بالحذر النسبي، في ضوء قطعها وإسرائيل، منذ منتصف 2023، شوطاً مهمّاً لجهة تعزيز العلاقات الثنائية وتعميقها، بعد فتور وتقلّب متكرّرين منذ عودة هذه العلاقات بينهما في عام 1992. وثمة العشرات من الشركات الإسرائيلية العاملة في نيجيريا، من بينها شركتان كبيرتان تعملان في مجال «مواجهة الإرهاب»، فيما مجمل سياسات نيجيريا إزاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني خاضعة لوجهات نظر متباينة داخل المجتمع النيجيري المتنوّع إثنياً ودينياً. وبشكل عام، يلاحَظ جنوح نظام تينوبو إلى الاحتواء المتدرّج للاستجابات الشعبية الغاضبة، ولا سيما منذ قتْل الشرطة متظاهرَين اثنَين قبل نحو شهر، خلال مسيرة نظّمتها منظّمة «الحركة الإسلامية» المحظورة، بقيادة السيد إبراهيم زكزاكي.
تعمل إسرائيل والقوى الداعمة لها على ملاحقة أيّ مظاهر تأييد للقضية الفلسطينية



تنزانيا ولغز «الحياد» السلبي: عامل جوشوا موليل
زعم وزير الخارجية التنزاني، جانيوري ماكامبا (14 الجاري)، مقتل شاب تنزاني «بمجرد وقوعه في يد قوات حماس» في السابع من أكتوبر الفائت، بحسب نقْلِه الحرفي لرواية السلطات الإسرائيلية. وجاء حديث ماكامبا (بعد دخول الحرب شهرها الثالث، مصحوباً بتغطية إعلامية تنزانية مكثّفة تروّج «لعدوان حماس» على الأراضي الإسرائيلية)، وسط تقارير مهمّة توقّعت خفض تنزانيا (التي اعترفت بـ«منظمة التحرير الفلسطينية» في عام 1973، وكانت واحدة من أواخر الدول الأفريقية التي استعادت علاقاتها مع إسرائيل في عام 1994) انخراطها في حملة تحجيم المواقف الشعبية الداعمة للقضية الفلسطينية عبر الدفع بخطورة «التهديدات الإرهابية»، مع الاستمرار في «إدانة جميع أشكال العنف»، والدعوة إلى حلّ الدولتين.
وكانت الصحف الإسرائيلية تداولت في تقارير عن مقتل الطالب التنزاني، جوشوا موليل (21 سنة)، لافتة إلى «احتفاظ حماس بجثمانه»، لكن والده رفض تصديق ذلك «لأن الجهات الإسرائيلية لم تجب عن تساؤلات حول مصدر تلك المعلومات». كما أن إعلان الخارجية التنزانية اللاحق (بعد نحو 24 ساعة من تداول الخبر إسرائيليّاً) تضمّن عزم الحكومة إرسال والد الطالب التنزاني مع أحد المسؤولين الحكوميين إلى إسرائيل لمقابلة السلطات هناك، والسفير التنزاني في تل أبيب، لإطلاعه على التفاصيل، وهو ما يعزّز فرضية الاستغلال السياسي لـ«الحادث»، لمصلحة خفض سقف الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية، مع الإشارة هنا إلى أن إسرائيل تمثل بالنسبة إلى تنزانيا شريكاً مهمّاً في مجالات الأدوية والزراعة والمياه والتكنولوجيا والأمن.

المعسكر الصهيوني في أفريقيا: تمدُّد متوقّع؟
يُلاحَظ تزايد الاهتمام في المراكز البحثية والإعلامية الغربية وتلك الرديفة لها في أفريقيا، بما تصفه بأنه «تغيرات جيوسياسية مرتقبة» في القارة جراء الأزمة الحالية في فلسطين. وفيما رصدت تلك المراكز وجود ثلاث كُتل على النحو التالي: كتلة مؤيّدة لفلسطين تتصدّرها الدول العربية وجنوب أفريقيا وزيمبابوي وتشاد؛ وأخرى داعمة للكيان الصهيوني تشمل بشكل واضح كينيا وغانا وزامبيا والكاميرون وجمهورية الكونغو الديموقراطية وليبيريا، وبشكل أقلّ وضوحاً دولاً أخرى مثل جنوب السودان ومالاوي وغيرهما؛ وثالثة محايدة تتصدّرها نيجيريا وأوغندا، فإن احتمال توسع الكتلة الثانية وتزايد تأثيرها السياسي، يفتح الباب على تغيّرات جيوسياسية في القارة، ليس على صعيد الموقف من الحرب في غزة فحسب، ولكن ربطاً أيضاً بملفّات إقليمية أخرى، من مثل ملفّ عضوية إسرائيل كمراقب في «الاتحاد الأفريقي»، وديناميات «مواجهة الإرهاب والعنف» (حيث تأتي إسرائيل في مرتبة متقدّمة في قائمة الدول المصدّرة للسلاح إلى أفريقيا بقيمة تتجاوز 7 مليارات دولار سنوياً، منذ عام 2017)، والتنافس الدولي على الساحة الأفريقية.
وتشي الاستفاقة الإسرائيلية في القارة حاليّاً، على الأقلّ على مستوى إطلاق أدوات حرب دعائية تستهدف المقاومة الفلسطينية بشكل عام وتعيد ضخّ أفكار «التعاون الإسرائيلي - الأفريقي» مستقبلاً، وما يلمس حالياً من إعادة إطلاق إسرائيل مشروعات «التعاون» الأمني والعسكري مع العديد من دول أفريقيا في أقاليم مختلفة، ببدء المعسكر الصهيوني في أفريقيا هجمة مضادة للتأييد الشعبي والرسمي الكبير لفلسطين، ومحاولة اختراق الدول «المحايدة» إمّا بحزم ضغوط مألوفة، أو بوعود الاستثمار في قطاعات الأمن والزراعة والتكنولوجيا وغيرها.

خلاصة
على رغم زخم التحرّك الصهيوني ومؤشرات نجاحه الأولية في استمالة أنظمة أفريقية لاتخاذ مواقف أكثر «حياداً»، فإنه يأتي بعد خسارة إسرائيل شبه الكاملة لعشرة أعوام من النشاط الدبلوماسي المكثّف في القارة. ولذا، فإن هذه المحاولات لن تصمد في الغالب في وجه تمدُّد الغضب الشعبي، ولا سيما أنها لم تنجح، إلى الآن، إلا في داخل الدوائر المتعاطفة تاريخياً مع السردية الغربية - الصهيونية.