من طبائع العقل السياسي العربي تاريخياً، القبول بما هو كائن، إذ ارتصف في سياق كل ما يحمل لافتات عقدة الخضوع في مدار الأرجوحة التي يسكنها هذا العقل منذ قرن على الأقل، والاستثناء على طول الخط بيت القصيد والقصد والمرتجى ومعقد الولادة الطبيعية المطلوبة. لا تشي كل الحواشي العاجلة التي زنّرت نصوص هذا العقل بإمكانية الهبوط من مركبات فضائه، ولو اضطرارياً، لإعادة النظر والتزوّد بوقود يختلف عن منظومة التسويغ التي ترتدي في كل موسم أو حدث يستدعيه حلة جديدة لا تتحلّل من لازمة الاضطرار للتبرير والبقاء في السكونية والانتظام في معسكر الهزيمة ثقافياً وسياسياً ونفسياً ووجودياً. والعواطف، بالمناسبة، إن لم تتوضّب في إطار مشروع يصوغ لها آمالها عقلانياً، لن تنتج إلا مزيداً من الحدائيات، وهذه متى كانت عنواناً للنهوض!
نحن هنا أمام عقل تتوزّع صناعته التاريخية وتشكيلاته على محدّدات تتخلّع عن القاعدة التي ترسم الحدود وتضبطها بما يولّد المعيار؛ واحدٌ من هذه المحددات «لا محددات هنا» - هو الاختلال وإليه يرجع أمر التردي كله في الهاوية، وللهاوية هواتها. والمفارقة أن تجد عقلاً جمعياً يستوطن المقاعد الخلفية بالتنظير، وباسم مقولة الأمام، يتمثّل هذه الوضعيةَ ويمطرها بمقالات قد تظنّها لوهلة معلّقات سياسية على جدران معتّقة.
لا شك أن هناك بديهيات تاريخية وثوابت إنسانية عالمية ومواثيق ذاكرة ومسارات لكينونة الشعوب وتشكيلاتها التاريخية، مع منظومات أخلاقية قارّة تلعب دور السياجات القانونية لإرثها الكياني وحواضن ممتلكاتها الشخصية، بالمحدّد الجمعي للمفردة، وإذا كان الحديث عن أرض الشعوب وتاريخها وذاكرتها الجمعية فالحديث هنا تحتيٌّ، أي في الأساس الذي ينبعث منه ويقترن ويلتصق به المعيار والميزان الذي يمنع الاختلال والانحلال.
إنّ سقوط الأرضية المعيارية يفتح الباب واسعاً لكل تأويل حتى لو لم يكن ممكناً. فالممكنات تخضع، فلسفياً، للحدود الفاصلة المنبثقة من طبيعة النصوص، والمقصود هنا نص فلسطين بالمعنى المرجعي وفلسفته وثوابته العليا، بما يتيح الخروج من السطور، لا عليها، إلى التراب الوطني وحمولته ومعناه في الحياة وجدليته، وتطلعاته إلى منصات الحقوق والحضور والاستعادة.
من دون تلك الضوابط والحدود الفاصلة ندخل في تيه التعمية والانشطارات ويصبح خطاب التضاد ممكناً، وهذا بالضبط ما يذهل في قراءة العقل السياسي العربي الراهن، الذي يتيح إمكانية التناقضات في سلالة وهمية لا تكفّ عن التوالد ومحاولات تشريع ما لا يمكن أن يُشرّع بأي معيار ومقياس من المقاييس.
إنّ حدثاً كـ«طوفان الأقصى» كافٍ، لا لتصفير العقل السياسي العربي بكل حمولته الزائفة فحسب، بل ومحاكمته في إطار نقد ذاتي بنيوي كليّ المسح والمقاربة الدقيقة. لا يمكن لأحد تشريح فلسطين وتبضيعها، ومن خلال جزئيات القِطع يبني كليّات مشروعه السياسي الخاص عليها وحولها. هذه خصخصة من نوع آخر. هذا بالضبط كمين اختلال ومكمن سقوط المعايير. فلسطين أرض ودولة وشعب، ولكل واحدة من هذه الثلاث سياق واحد يجمعها معاً. حزمة أخلاقية وذاكرة تاريخية وجودية بكل المعايير الثقافية الكونية. هو سياقها من دون تجزئة، فهي كتلة واحدة تعني هوية واحدة هي فلسطين التاريخية.
رسالة «الطوفان» التاريخية تمام السياق غير القابل للاعتراف بالجزر القائمة وتثبيتها، مهما كان نوع الاستحداث، ومهما بلغ حجم تجذّره في زمن الغفلة والانحلال العصيب، ومهما تصلّب منسوب ترسيخه وتثبيته بكل إحداثياته في مرمى الخرائط الزئبقية الانزياحية.
هذا هو تصفير السياق. هذه هي دلالاته. إنّ عملية «الطوفان» بحجم فلسطين من الماء إلى الماء، بحجم تاريخها وشعبها الأصيل المتنوع، وبحجم رسالتها الثقافية والحضارية، وبحجم دمائها. هي، بفعلها وفصولها ونتائجها وتردّداتها، ضربة وضريبة وكلفة بحجم القضية.
لقد أعادت عملية «الطوفان» شعوب العالم إلى مسألة فلسطين باعتبارها القضية المركزية الأولى في العالم، وليس القضية المركزية عربياً وإسلامياً فحسب، وبذلك فهي المختبر المستحق لقواعد حقوق الإنسان ومواثيق العدالة الاجتماعية والسياسية ومباني قواعد تقرير المصائر.
من هنا بالذات، لا بدّ من وجود المقاومة، ولا بدّ من فعلها، ولا بدّ من احترامها وتوسعة قواعدها، لأنها الضمانة لكل السياق. المقاومة اليوم، بمقدار ما تحفر في عملية استعادة الوطن الفلسطيني، بمقدار ما تستعيد العقل العربي ثقافياً وسياسياً. تحرير فلسطين يكشف عن تحرير العقل العربي، وهو أول مباني السيادة، وهذا من أولى فرائضه أن تلتفت الشعوب العربية والإسلامية إلى فعل وفاعلية قوى المقاومة ومشروعها النهضوي، وأن تكون وسيطة انتماء حيوي للمعنى العربي الإسلامي المسيحي الذي تحمل فلسطين مكوّناته كاملة. أن تنخرط هذه الشعوب، بكل تنويعاتها، في مشهدية النضال. وأن تصغي لصوت «الطوفان» والوقفة التاريخية للشعب الفلسطيني العظيم وللمقاومات في لبنان واليمن والعراق. وأن يكون الجميع شهوداً مع الشهداء على صياغة وعي آخر في إطار يقظة أمّة بدأت تستيقظ على إيقاع فعل المقاومة ودلالاته على الطريق إلى الغد الحر.
وعنوان العناوين لهذه اليقظة والنهضة، ولمجمل عناصر الإحياء الثقافي والسياسي، هو كتاب الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي لم تكفّ يوماً عن خطاب الأمّة -بالمعنى الكبير الواسع والشامل- واحترام خصوصياتها على صعيد المبنى والحمولة التاريخية والمعاصرة وضرورات الاستعادة للسيادة على الذات من بوابة التنوع والحرص عليه.

* كاتب وحوزوي