وعليه، لم يعُد أمام القيادة الإسرائيلية سوى خيار مواصلة الحرب، على أمل أن يتحقّق بعض من الأهداف المعلَنة، وهو ما يحضر في وعي مؤسّسات القرار، ويعبّر عنه الخبراء الأمنيون، ومن بينهم مستشار الأمن القومي السابق، اللواء غيورا آيلند، الذي أكّد أن «النصر يتحقّق عبر مراكمة الكثير من الانتصارات التكتيكية. وسيسلب هذا الأمر من حماس قدراتها العسكرية... وفي النهاية، فإن سلطتها ستنهار، وسنصل إلى الانتصار». لكن آيلند أقرّ أيضاً بأن «الطريق (إلى ذلك) كما نرى، طويلة جداً، ويجري الحديث عن أشهر إضافية، وأنا أوافق على ذلك».
مع ذلك، فإن خيار مواصلة الحرب يحتاج إلى غطاء ودعم أميركييْن على المستويات كافة. وفي هذا الإطار، طمأن مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إلى استمرار ذلك الدعم، لكنه شدّد على ضرورة الانتقال إلى تكتيكات أخرى، عنوانها مطاردة قادة حركة «حماس»، وهو ما «سيستغرق أشهراً إضافية». لكن بقاء المقاومة قادرة وفاعلة في القطاع، سيحول ليس فقط دون تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وإنّما أيضاً ما تخطط له الإدارة الأميركية في اليوم التالي من إنتاج سلطة سياسية تُكمل ما بدأته إسرائيل، وتهيّئ الأرضية لإعادة إنتاج وهم المسار السياسي، إذ إن تلك النتائج مشروطة بخضوع «حماس» أو تطويعها أو تدميرها، وهو ما لم يحدث أيّ منه إلى الآن، ولا يُتوقّع أن يحدث. وعندها فقط، سيكتشف الأميركيون والإسرائيليون بالملموس أنهم أمام طريق مسدود.
يغيب أيّ تقنين للدعم الأميركي، من دون أن يتمكّن العدو من تحقيق انتصاره المأمول
كذلك، تحتاج قيادة العدو إلى المحافظة على زخم تأييد الجمهور الإسرائيلي لاستمرار الحرب، وهو تأييد لا يزال عالياً في الواقع، من دون أن يتعارض مع وجود أغلبية توافق على هُدن من أجل إجراء صفقات تبادل تؤدي إلى إنقاذ الأسرى الموجودين في غزة، وبالتالي سلب المقاومة إحدى أهم أوراق القوة التي تحتفظ بها. لكنّ القادة الإسرائيليين يدركون أن مواصلة القتال لأشهر إضافية «باهظة جداً من الناحية المالية، وباهظة أكثر من ناحية القتلى الإسرائيليين، كما أنها تؤجّل موضوع الحل في الشمال لأنه قبل الانتهاء من الجنوب لن نستطيع (فعل شيء) هناك (في الشمال)». ولذا، يحرص المسؤولون الإسرائيليون على تبيان أهمية استمرار الحرب للقضاء على التهديد الذي تشكله «حماس»، وذلك خشية أن تُضعف الخسائر والضغوط التي يتعرض لها الجمهور موقفه المؤيّد للحرب، التي يجري تصديرها بوصفها «حرب اللاخيار» و«الحرب الوجودية»، علماً أن هذه الأخيرة تدور بين كيان يُصنّف بالمعايير التكنولوجية والعسكرية، قوة عظمى إقليمية، ويحظى بدعم هائل من الولايات المتحدة، في مقابل حركة مقاومة محاصرة في نحو 365 كلم مربعاً، مع أكثر من مليونَي شخص، منذ أكثر من 16 عاماً.
وعلى رغم تعارض هذا التوجّه مع مبدأ أساسي في الإستراتيجية الإسرائيلية العامة، وهو تجنّب الحروب الطويلة، وحسم المعارك في أسرع وقت ممكن، إلا أنه ينطلق في الواقع من حقيقة أن ما تخوضه إسرائيل هو فعلاً «حرب الضرورة». ذلك أن البديل منها هو التسليم بالهزيمة التي تلقّتها في «طوفان الأقصى»، الذي هزّ العديد من مرتكزات الكيان، وأحدث فراغاً على مستوى الشعور بالأمن القومي والشخصي، لا يمكن ملؤه إلا بالإصرار على أهداف من قبيل اجتثاث التهديد والحسم العسكري. ويضاف إلى ما تقدّم، إدراك إسرائيل استحالة تطبيق مبدأ الحرب السريعة، بفعل «تغيّر التهديد وتغيّر العدو». ويلخّص هذا المفهوم حقيقة التحول الذي طرأ على معادلات بناء القوة والخطط العملياتية؛ حيث تراكم في وعي إسرائيل، على مرّ الحروب التي خاضتها، من مواجهاتها مع المقاومة في لبنان وخصوصاً منها حرب 2006، والجولات التي خاضتها مع المقاومة في غزة، أن للقوة حدوداً، الأمر الذي يتأكد أيضاً وأيضاً في المعركة الجارية حالياً، حيث تنعدم أيّ قيود سياسية داخلية أو خارجية، ويغيب أيّ تقنين للدعم الأميركي، من دون أن يتمكّن العدو من تحقيق انتصاره المأمول. ولعل ذلك ستكون له تداعيات إستراتيجية على مستقبل الكيان وموقعه في المعادلات الإقليمية.